مقالات نقدية الجدَّة العاشقة للأفلام الرومانسية
2025 - 09 - 11

عاش إبراهيم مع جدَّته من أمِّه علاقة خاصة،ميَّزتها مفارقات سلوكية عجيبة أضفت عليها نكهة استثنائية شَكَّلت باستمرار جلسات حكي لأهل الحيِّ،فهذه الجدّة رغم بلوغها عمرا متقدِّما استمرَّ دأبها السَّردي لما علق في ذهنها من حكايات هتلر، الفرنسيس، دوغول، سَنِغَال،الهند الصينية،اليهود،جمال عبد الناصر،المجاعة،عام لْبونْ،الجفاف،حروب القبائل، بذخ قوَّاد الإقطاع،حِيَل النِّساء وأسرار العشَّاق، الخيانات الزَّوجية،جغرافية مراكش القديمة، طقوس الحِرَفيين التقليديين، يوميات المرَّاكشيين أيام سلطة الباشا الكلاوي

الجدَّة المدعوَّة بالحاجَّة فَاضْمَة ذاكرة خصبة وحيَّة بامتياز،لاتكفّ يوميا على تهذيبها وإنعاشها بأحاديثها المطَّرِدة مع جيران الحيِّ من مختلف الأجيال؛أينما انتقلت وحلت،يكفي مصادفة عبورها وإلقاء التحيَّة عليها كي تسهب حديثا.

اعتُبرت أسرة إبراهيم ضمن أهل الحيِّ الأوائل الذين اقتنوا تلفازا أواسط عقد السبعينات،بحيث لم يكن الجهاز السَّاحر حين بداية تسويقه محليّا متاحا سوى أمام إمكانيات أقليّة قليلة،بالتالي شَكَّل اقتناؤه عنوانا للتميُّز الطبقي؛كما جرى الوضع فيما بعد مع نفس التِّلفاز بالألوان وكذا الهاتف المنزلي،ثم بدأ تدريجيا يغزو جُلّ البيوت ويوضع غالبا بحجمه المعَلَّبِ الصَّغير جانب مذياع خشبي كبير.

صحيح،أنَّ الضَّيف الغريب شغل وقتها الألباب وساد الأذهان و خَلَبَ النُّفوس،مع ذلك لم يكن زائرا مغترّا بهالته الحديثة بل أبقى مجالا واسعا للمذياع الأيقونة الموروثة،طيلة المدَّة السابقة عن انطلاق الفترة الزمنية المسموح بها للتِّلفاز؛أي من الساعة السادسة مساء حتى الحادية عشر ليلا،فالتوقُّف والإغلاق والانزواء إلى الصَّمت غاية حلول نفس الموعد خلال اليوم الموالي.

يترصَّد الجيران بفارغ الصبر التَّوقيت قصد الالتحاق فورا بمنزل أسرة إبراهيم، كي يتمتَّعوا باستيهامات الصندوق العجيب؛الأشبه بمصباح علاء الدين.

مقالات نقدية التحرُّش حقبة ماقبل الرَّقمنة
2025 - 08 - 26

المورفيم''تْسْ''،باختلاف طريقه توظيفه،عبر تحريك اللِّسان،لملمة الشَّفتين، مستويات الجهر والهمس والرَّفع والخفض،حسب تراكم تراث المتحرِّش،اكتسى معناه نفس الدَّلالة لدى لغات تواصل الشَّباب خلال العقود السابقة عن روافد المنظومة الرَّقمية،بحيث شَكَّل صوتا أوَّليا قصد إثارة انتباه الفتيات،مطاردتهنّ،حسب دَوِيِّ صدى الإشارة بالتَّفاعل الايجابيّ أو موت ارتداداتها في المهد،أو على العكس تماما من الاحتمالين السابقين،قد تخلق ''تْسْ''لباعثها متاعب غير متوقَّعة في حالة رفض الفتاة المعنية للسُّلوك،ثم قذفته بشتيمة مستفِزَّة قوامها غالبا كلمة''حمار".  

ردّة فعل مكرَّسة لغويا إبّان الحقبة الكلاسيكية،تطوَّرت بعده إلى مرادفات أخرى،نتيجة ربما انفتاح أسواق الإنتاج اللغوي،وقد لعبت بهذا الخصوص المسلسلات المدبلجة مرجعية ألهمت أجيال ترعرعت طفولتها،وأينع شبابها على إيقاع عرض التلفيزيون للدراما المكسيكية بداية التسعينات ثم توقَّفت كي تعقبها التركية، مثل :حقير،فقير، بئيس، تافه، بليد،مريض،متَسخ،متوحِّش،متخلّف، نذل،قليل الحياء، قليل الأدب..

نعوت حديثة التَّداول،قياسا لسياق لتيمة حمار،رسَّختها يوميات تلك المسلسلات بالدرجة الأولى،فاستلهمها المخزون الإدراكي لشباب في طور اكتشاف العالم وخلقت تعدُّدا واضحا بخصوص سلوك التحرُّش،تجاوزت بسنوات ضوئية وصف حمار.

طبعا،لم يكن كل واحد يتقن توظيف نداء''تْسْ''باللياقة اللاَّزمة قصد الإفضاء غاية النتيجة المطلوبة؛دون حدوث سوء تفاهم.دعوة،تمثِّل خطوة أساسية ضمن استراتجية للمتحرِّش،بعد ذلك،يحدِّد مستويات إقباله أو تراجعه.

عاينت،خلال إحدى المناسبات صداما بسبب اللازمة اللغوية للمتحرِّشين،وقد تكدَّسنا في جلسة تنافسية حامية الوطيس،نتبارى بشدّة على لعب الورق.مرَّت شابّة من غير ساكنة الحيِّ،فلم يكن جائزا بتاتا؛أخلاقيا أو مجرّد عرفيا،التحرّش بفتياته،بل وأكثر من ذلك،يفرض الوضع على جميع شباب الحيِّ،ضرورة التصدِّي لسلوك من هذا القبيل،إن حدث وصادف أحدهم موقف التحرُّش بإحدى فتيات الجيران والأقارب والمعارف،من طرف غريب في منطقة بعيدة،مادام أدبيات الشَّهامة تفرض عليه وجوب التدخُّل والدِّفاع عنها.

التقط أحد الجالسين بسرعة طيفها،في غمرة تركيزه على مضمار كارتون لعبة الورق،فلم يتردَّد قط في إطلاق صيحته الهامسة:

-'' تْسْ، تْسْ'' .

التفتت العابرة نحوه،وصرخت في وجهه :

-''أنا لست قِطَّة كي تناديني بهذا الأسلوب !''

تمادى كازانوفا،راغبا في استعراض تغزُّله أمامنا:

-''بل أنتِ قِطَّة القطط، ياقِطَّة قططي''.

ضحك جمعنا باستفاضة،بينما احمرّ وجه الفتاة احمرارا خجلا،وأبانت ملامحها عن بواكير شرارات الغضب : 

-''وأنتَ حمار  حميري،مارأيك ياحمار!هل توافق؟''

انقلبت سخرية الضحك نحوه باحتشام،لأنَّ كلمة حمار ثقيلة على الميزان،تأتي تماما على كرامة الشخص.

حدسنا وقوع زلزال غير مسبوق في عين المكان.لكن الموصوف بالحمار باغتنا كليا ببرودته تماما،كما لو ابتلع قرصا مهدِّئا للغاية،فاندثرت حمولة شحنة أعصابه.

ظلَّ برهة ساكنا في مكانه،يقلِّب بين أصابعه أوراق اللعب،ثم ردَّ عليها :

مقالات نقدية الصَّحراوي ووصفة الفحولة الجنسية
2025 - 08 - 15

ارتبطتُ فيما مضى حميما بساحة جامع الفنا؛مثل أغلب مراكشيِّي المدينة العتيقة،بحيث لم يكن ينقضي يوم واحد دون زيارتها أو مجرَّد عبورها سريعا أو احتساء شوربة من مطبخنا التَّقليدي أو قهوة أو شاي منعنَعٍ ملهِمٍ بين زوايا مَعْلمة مقهى ماطيش،على أنغام الكلاسيكيات الغنائية العذبة،رفقة بعض أصدقائي الرَّاحلين؛العالقة إلى الأبد ذكرياتهم الجميلة بين تلابيب ذاكرتي.

أيام مضت،صارت حتما ضمن غياهب المندثِرِ هناك،ولازالت حواسِّي تحافظ على نفس طراوتها رغم كونها يوميات توقَّفَت تقريبا منتصف التِّسعينات،حينما غادرتُ وأسرتي خارج سور المدينة التُّراثية.

في غضون سياق الألفية الثَّالثة،شرعتُ جامع الفنا تبتعد ابتعادا صراحة عن كنه تلك الأصالة المألوفة التي فتحت عليها عيناي،وترعرعتُ وأفراد جيلي بين كنفها. 

عموما،يعرف الجميع بأنَّ جامع الفنا،عنوان مفصليٌّ لثقافة الحلقة،ارتبطت سياقات طفولتي وشبابي بثلاثٍ منها،أدمنتُ عليها قصد التسلِّي والابتهاج والاستمتاع بشتَّى الخطابات والمشاهد الفولكلورية :الملاكمة،عروض باقشيش صحبة حماره،حلقة العشَّاب الصَّحراوي.

ارتبطت لديَّ اللحظات الثلاث نفسيا بمراحل عمرية معيَّنة،ومستويات نضج الاهتمامات واستقرار الهواجس وطبيعة استدعاء المثيرات الملهِمة.

*حلقة الملاكمة الشَّهيرة :تناوب أَخَوَانِ على تنظيم أطوارها،اتَّسما معا بنفس الحضور والفطرة كأنَّهما توأمان،امتلكا نفس السليقة اللغوية الشّعبية التي تلعب بذكاء اجتماعي على دغدغة مشاعر المتحلِّقين قصد امتلاك جرأة التقدُّم إلى وسط الحلبة والمشاركة في مباراة، مع وجود مبارز شبه دائم،اشتُهر بلقبي''فان دام''و''رامبو'' ؛على سبيل الذمِّ بما يشبه المدح.

شابٌّ،أبعد بعد السماء عن الأرض،من البنية الجسمانية والعضلاتية للممثِّلَيْنِ المشهورين خلال تلك الحقبة،لأنَّه نحيف للغاية،تهاوت كلّ أسنان فمه رغم حداثة عمره، لذلك يلعب بثغره تمطيطا وتقليصا وتدويرا وشدّا ومدّا،أحيانا على طريقة إسماعيل ياسين مع تقليد ذات ضحكته،فتزداد ملامحه هزلا،تغرق الجمهور في قهقهات لاسيما حينما يشرع صاحب الحلقة في مدح مقاتله العتيد بكيفية تشبه الطابع الحماسي لمقدِّمي مقابلات الملاكمة الاحترافية،و''فان دام'' أو ''رامبو'' في أوج تمارينه التسخينية،و قِمَّة حماسته القتالية،بينما لايكاد يختلف هيكله الفعليّ عن رسم الفهد الوردي،بطل المسلسل الكارتوني الذي كنت أسرع للتجمُّد أمام التلفزيون الصغير حتى أتابع حرفيا مغامراته بنفس الشَّغف.

عموما،تجري بين الفينة والأخرى مباريات بدائية مثيرة تحظى بتصفيق حادٍّ ثم تتقاطر المساهمات المادية على صاحب الحلقة،الذي اشتهر بدعائه :''أطلب من الله أن يضع حَدَبة على أنفكَ ذات صباح دون سابق إنذار، إذا بخِلْتَ عليّ بما يطويه جيبكَ!''.

*باقشيش وأذكى حمار:لقاء فكاهيّ بامتياز،أخذ نموذج عروض السِّيرك،فقد كسَّر هذا الحمار تماما الصورة النَّمطية المعتادة عن فصيلة الحمير باعتبارهم نموذج البلاهة المطلقة،بل على العكس من ذلك،يدخِّن سيجارة مع باقشيش بنشوة آدمية،متفاعلا بكل ليونة مع إشارات سيِّده،مقبلا بليونة وذكاء على تفعيل مختلف الحركات المطلوبة؛كأنَّنا حيال مشاهد سيرك الحيوانات المروَّضة.  

مقالات نقدية تغيير المنزل واغتراب الكتب
2025 - 08 - 02

الانتقال المادي من منزل إلى ثان،ليس بالأمر الهيِّن،لأنَّه يقتضي حرفيا مجهودا على جميع المستويات؛سواء بتجهيز لوجيستيك الذَّهاب أو استشراف تفاصيل توطين فضاء الاستقبال.

لاأريد ضمن هذا المقام العابر،استدعاء إشكالية التِّرحال وفق أبعاده ومحدِّداته الفلسفية والوجودية العميقة من خلال متواليات لعبة المكان/اللامكان،السَّفر الدَّائم عبر المكان الواحد،لانهائية التِّرحال وتعدُّد سبله،ولادات المكان اللامتناهية،أو انصهار الأمكنة بالمطلق مهما تباينت وتنوَّعت عند نواة مكان الطفولة الأولى،باعتباره في نهاية المطاف مبتدأ ومنتهى خيال الأمكنة،من الولادة غاية الموت.

أعتقد،بأنَّ أهمّ حكاية مباشرة في زمننا ومكاننا الحاليين؛بالنسبة لمن لازال يملك مكتبة داخل بيته رغم ابتذال هذا الطرح لدى الكثيرين،بخصوص حيثيات الانتقال إلى منزل ثان،تتعلَّق أساسا بمدى شرعية حمولة الكتب وجدوى حضورها غير المناسب والثَّقيل حسب تقدير جلّ الآراء الصَّادرة لدى أهل المحيط القريب أو المنبعثة من خارجه،داخل مجتمع تعمَّقت فجوته كفاية مع هذا الكائن التاريخي العريق جدا عراقة الإنسانية،ويكابد راهنا مثلها تماما بشقِّ الأنفس حتمية الانقراض النهائي رفقة آخر موروثات زمن ولى بكل أقانيمه ومرتكزاته.

إذن،تعدُّ حكاية التحوُّل بحمولة كتب من منزل إلى منزل،إشكالية عويصة ومسألة قائمة الذات؛لاسيما إذا كان عددها فائضا مستفيضا ومثيرا للانتباه،هنا تبدأ مشاعر خاصة في التَّبلور،غير إيجابية عموما،تتجاذبها عبارات الضَّجر،الامتعاض،الانذهال،الاستغراب، التهكُّم، ثم تداعيات أخرى من هذا القبيل : 

-شْلاَّ كْتُبْ!''

-"آه لو كانت هذه الكتب أوراقا نقدية !'' 

تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار