جاءت ثورة كمال أتاتورك في تركيا،فأسقط الخلافة وتبنَّى النموذج الأوروبي،حينها وقع تراجع آخر فيما يتعلق بأفق التغيير،لذلك تبلورت الحركة السلفية من خلال دعوة رشيد رضا،إلى الاهتمام أولا وأخيرا،بالأصول وضرورة التمسُّك بها.
ثم ظهرت حركة الإخوان المسلمين،ضمن سياق تبلور الحركات الوطنية، وحركات الاستقلال،والأحزاب الجماهيرية،لمواجهة الاستعمار والفساد،هكذا جسَّدت عمليا حلم جمال الدين الأفغاني بتأسيس حزب ثوري،مستند على الجماهير وتحقيق الإصلاح.
نجحت حركة الضباط الأحرار في مصر سنة1952 .حدث الصدام بين الجناحين نتيجة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر يوم 26 أكتوبر 1954،من طرف محمود عبد اللطيف؛عضو جماعة الإخوان المسلمين،فانصبَّت آلة القمع برمتها على المنتمين إلى التنظيم وملئت بهم السجون المصرية،كي يختبروا فعليا تحت قبضة الأجهزة مختلف أنواع التعذيب والتنكيل.لذلك،حينما غادروا دهاليز السجون،تمسَّكوا جملة وتفصيلا برفض شامل لمختلف الإيديولوجيات الأخرى،عبر دعوتهم قصد العمل من أجل تقويض مانعتوه بمجتمع الكفر وتدشين بداية حقيقية للإسلام.
في غضون تلك المطاردة العنيفة،راكمت الحركات الإسلامية رمزية شعبية،لاسيما جراء إخفاق سياسات التحديث من طرف القوى العلمانية،بواسطة تدابير مختلف مكوِّناتها الليبرالية القومية ثم الماركسية.
انقسمت الأصولية الإسلامية إلى تيار محافظ تقليدي،والآخر تحرُّري. يؤيِّد الأول النُّظم المحافظة،متمسِّكا طوباويا بضرورة تطبيق الشريعة وقانون العقوبات،بغير فهم للسياق وكنه الشريعة أو أسباب النزول ومقاصد الشريعة وروح العصر،بالدفاع المطلق عن حقوق الله،لذلك يضيف حسن حنفي:''غلب عليها الاستنباط أكثر من الاستقراء،والأصول أكثر من الفروع،والمبادئ أكثر من الوقائع،والشعارات أكثر من مضامينها،والنظريات أكثر من العمليات،والعقائد أكثر من التشريعات.توحِّد بين الشريعة وقانون العقوبات،وتريد أن يقوم الناس بواجباتهم قبل أن يأخذوا حقوقهم.تريد تطبيق الإسلام بجدل الكلي أو لاشيء،وهدم النظم الجاهلية كلها ليبدأ تأسيس المجتمعات الإسلامية من جديد.فلا رتق ولاإصلاح ولاترميم ولاتعديل ولاتغيير لما هو قائم وكأنَّ الإسلام لم يدع الناس إلى الإصلاح وعدم الإفساد في الأرض،ولم يهذّب مناسك الحج في الجاهلية دون إلغائها.ويتم ذلك عن طريق النخبة،جيل قرآني فريد،طليعة مؤمنة تقود الأغلبية،وتدعو الناس.ولاضير أن يبدأ ذلك بتنظيم سري،وحركة تحت الأرض حتى يظهر الإمام فيتم ملء الأرض عدلا كما ملئت جورا،ولاضير من استعمال العنف،فالعنف في الله واجب''(ص 27).
ٍ
سنة 1989 شهدت الساحة الثقافية العربية،حدثا معرفيا مهمّا،باغت أوساط الأنتلجنسيا،لأنه لم يكن حقيقة متوقَّعا في خضمِّ أدبيات متوارثة ترسَّخت مع مرور الأجيال،قوامها في أغلب الأحيان انتفاء أبسط تجليات الاهتمام، الحوار، الإصغاء، الاكتراث، لما يقال،سواء لدى الأنظمة السياسية وكذا النُّخب الثقافية.
غير أنَّ مجلة اليوم السابع،التي أصدرتها منظمة التحرير الفلسطينية في باريس،منذ سنة 1984، بادرت إلى تدشين خطوة حوارية مميَّزة بين مفكِّرين كبيرين ينتميان بجدارة إلى طليعة النخبة الأولى،اشتغلا حتى آخر لحظات حياتهما على مشروعين علميين؛حسب المفهوم الأصيل للكلمة في أبعاده المتكاملة،ضمن نفس مضمار سؤال الخطاب النهضوي : لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم الغربيون؟ المتبلوِرة ملامحه الأولى خلال القرن التاسع عشر، جوابا على الإشكال التاريخي زمنيا والمصيري وجوديا،القابع غاية الآن بدون تراكم فعلي وراسخ لأوراش عملية قصد حدوث تبلور ملموس سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا،للمسار الحضاري الذي بوسعه إخراج منظومات المنطقة وشعوبها المعزولة تماما وسط بيداء التخلُّف والتحلُّل،والاهتداء بها صوب واحات الحياة قصد الانبعاث ثانية.
جاءت موضوعات السجال وتعليلاته حسب العناوين التالية :في معنى الحوار ومقاصده، الأصولية والعصر، العلمانية والإسلام، الوحدة العربية إقليمية أم اندماجية، الليبرالية، الحداثة والتقليد، الناصرية، العرب والثورة الفرنسية، القضية الفلسطينية.
هيكلت مجلة اليوم السابع الحوار،حسب مرحلتين: انتظمت حلقات المرحلة الأولى، على عروض الأستاذين حسن حنفي وعابد الجابري،بينما جاءت المرحلة الثانية طيلة أربعة عشر أسبوعا،كي تفسح المجلة صفحاتها للتعقيب والتعليق ومناقشة الأفكار التي بادر إلى طرحها رائدي''حوار الثمانينات''،مثلما سمي آنذاك،بمشاركة الأسماء التالية :
ضمن التَّقييمات المنهجية التي يتبنَّاها فريق من النقَّاد والمهتمين بتشريح النصوص،فيما يتعلق بالحكم على ثراء نصٍّ معين أو بؤسه،رصد مستويات حضور الهوامش والحواشي والاستطرادات والتوضيحات الجانبية و التعريفات والسِّير،أسفل كل صفحة من صفحاته،بحيث يشكِّل مجموعها في نهاية المطاف،نصَّا مُبَطَّنا خلف واجهة النصِّ الأساسي وكذا مفتاحا لفهم جوانب كبيرة انطوت عليها حمولته الظاهرة.
حقيقة قد توحي الإشكالية،بملاحظات أخرى يستدعيها المقام،بخصوص طبيعة النصِّ،وهويته الجديرة به،انطلاقا من علاقته بصاحبه أولا ثم القارئ الواحد والمفترض :
*ليس مُهِمّا،أن يكون النص طويلا كمِّيا، مديد القامة حتى يؤكِّد وجوده،بل الجوهري نوعية حمولته المعرفية،وما انطوى عليه من إشكاليات وأسئلة جديدة قياسا للأطروحات القائمة.
تبنَّى شوقي ضيف متعقِّبا خطى طه حسين وكذا المستشرق كارل بروكلمان،منظورا تاريخيا لتقييم الأدب،كما استلهم منهج هيبوليت تين أو المدرسة الطبيعية التي تفسِّر التطور الأدبي بناء على خضوعه لقوانين الجنس أو العرق،الزمان، المكان.
بدأ دراسته لكل عصر من العصور الأدبية التي أراد التأريخ لها،بالبحث في منظومة المعطيات السياسية والاجتماعية ثم الثقافية،وكذا الجمع بين عنصري الزمان والمكان،قصد الانتهاء إلى نتائج أكثر إحاطة وشمولية،فقد لاحظ بأنَّ جهود العرب المحدثين وكذا المستشرقين،لم توجِّه اهتمامها نحو دراسة الأدب العربي والأدباء العرب على امتداد التاريخ،من الجاهلية غاية العصر الحديث.
اقتنع شوقي ضيف دائما،بأنَّ فهم حاضر الظواهر الأدبية واستيعاب كنهها،يقتضي لزوما دراسة الماضي بهدف تأصيل المفاهيم والمتون،من ثمَّة بلور مشروعه حول موسوعة الأدب العربي،الذي استغرق اشتغاله عليه ثلاثين سنة من خلال تسعة أجزاء، شملت كل التاريخ الأدبي من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث،آخذا على عاتقه مهمَّة الدفاع عن التراث العربي وهويته الحضارية،مستندا دائما على روافد ومبادئ المنهج النقدي التاريخي؛مثلما اشتغل عليه طه حسين،وإن اختلفت قصدية كل واحد منهما،بحيث ابتغى صاحب الشعر الجاهلي الدفاع عن التراث بدعوته أساسا إلى التجديد العقلي عبر تحريره من سطوة الجمود،بالتالي ضرورة التشبع بنظرة تاريخية تطورية.
أوضح شوقي ضيف،اللبنات الكبرى لطبيعة هواجسه في مقدمة كتابه ''العصر الجاهلي''،كحلقة أولى ضمن حلقات طويلة شملت عصور الأدب العربي وأعلامه وشخصياته :''للباحثين المحدثين من عرب ومستشرقين كتب مختلفة في تاريخ الأدب العربي أدَّت كثيرا من الفائدة والنفع منذ ظهورها،غير أن من الحق أنه ليس بين هذه الكتب مايبسط الحديث في أدبنا وأدبائنا على مرّ التاريخ من الجاهلية إلى العصر الحديث بسطا مفصلا دقيقا.وأغزر هذه الكتب وأحْفَلَهَا مادة كتاب''تاريخ الأدب العربي''لبروكلمان،وهو دائرة معارف جامعة،لاتقتصر على الحديث عن شعرائنا وكتَّابنا،بل تفيض في الكلام عن فلاسفتنا وعلمائنا من كل صنف وعلى كل لون،مع استقصاء آثارهم المطبوعة والمخطوطة في مشارق الأرض ومغاربها والإشارة إلى ماكُتب عنهم قديما وحديثا.وهذه العناية من وصف العناية من وصف التراث العربي جميعه جعلت بروكلمان لايعنى عناية مفصلة ببحث العصور والظواهر الأدبية ولاببحث شخصيات الأدباء بحثا تاريخيا نقديا تحليليا،إذ شغلته عن ذلك مواد كتابه المتنوعة الكثيرة.وإذن فأنا لا أبالغ إذا قلت إن تاريخ أدبنا العربي يفتقر إلى طائفة من الأجزاء المبسوطة تُبْحث فيها عصوره من الجاهلية إلى عصرنا الحاضر كما تبحث شخصياته الأدبية بحثا مسهبا''(14).