من بين أكبر الأعطاب المجتمعية التي تترتَّب عنها أزمات بنيوية وارتدادات مفصلية ثم في نهاية المطاف جملة كوارث إنسانية،أساسه عدم بلوغ أيّ مجتمع مستوى متطوِّر فيما يتعلق بصقل أدبيات التواصل.
نجاح أو إخفاق أو مجرَّد اختلال يكتنف منظومة التواصل،معناه تعبيد الطريق أمام تداعيات سوء الفهم،استطراد أخطاء التَّأويل،عدم الوضوح، التَّضليل،العداوات، الضَّغينة، سيادة العنف.
يخفق التواصل،يضيع المعنى،يترسَّخ التِّيه ثم تتوالى تباعا سلبيات ذلك من الأحادية الدلالية إلى التسلُّط الشامل،وتفشِّي مختلف العلل النفسية المزمنة.
بناء عليه،يبدو الحلّ بسيطا،بخصوص مختلف الانهيارات التي يعيشها العالم،يكمن الترياق في إعادة ترميم أدبيات التواصل.تواصل الإنسان،مع ذاته قبل كل شيء،والإصغاء لدواخله جيدا،قصد تركيزه أولا وأخيرا،على التصالح معها،والتقاط نبضها،كي يستوعب حقيقة وجوده في هذه الدنيا الملغِزة حكايتها،ثم التواصل مع الآخر حتى يتم تفكيك شفرة وحدة التعدُّد وتعدُّد الوحدة.
والحالة تلك،تجد الترجمة وضعها طوعا أو كرها،في طليعة من يستحق بامتياز شرف هذه المعركة المصيرية.لذلك،كلما أثيرت قضية السلام العالمي،واستتباب لبنات التعايش بين الأمم على امتداد الجغرافيات،يبرز ضمن المقام الأول بغضِّ النظر عن فاعلية المؤسسات السياسية،قضية الترجمة ودورها المحوري على مستوى تذويب الفوارق والتباينات بين الحضارات،عبر ترسيخها جسور التواصل والتعارف والتفاهم والتسامح.
فضائل عدَة،تنقلب آليا إلى نقيضها،حينما تتقلَّص مساحة مؤسَّسة الترجمة،بالتالي إتاحة المجال أمام مختلف أنماط الانطوائية و الشوفينية و التعصُّب،مادامت الحواجز لازالت ماثلة بزخم ولم يتم تقليص سُمْكها بواسطة الترجمة.
غالبا مايبدو ضمن التقليد المرسَّخ،إمكانية التساؤل حول الهوية الإبداعية للترجمة ومنحاها الحداثي أو فقط عملية استنساخية لبنيات قائمة سلفا،بمثابة استفسار استنكاري يضمر تهكُّما نحو الترجمة،أو بالأحرى تبخيسا ضمنيا لفعل الترجمة وتشوُّفه،كما الحال بالنسبة للتأليف والكتابة النظرية المستندين على حافز الخلق والانتشاء والولادة الجديدة، مقابل الترجمة التي هي استنساخ.
بالمطلق،هناك وصفة واحدة جامعة مانعة،دون غيرها كي ينجح المترجِم في إنجاز مهمَّته،ويظلُّ فاعلا ومنتِجا ضمن مضماره.يتعلق الأمر،أولا وأخيرا،بشفافيته الفكرية ومدى انسجامه مع ذاته عبر اختياراته المعرفية والمهنية.أفق،يشعره دوما بانسجام داخلي وتوازنٍ روحي،يغني ويثري جذوة الإبداع لديه،بالتالي تكريس معاني الحياة.
وحده،التماثل مع الذات بكيفية بنَّاءة و جدلية،تمنح المترجِم شعورا نفسيا بجدوى مايقوم به،و يؤطِّر سؤال الترجمة وفق أبعاده الوجودية العميقة،تسمو به بعيدا جدا،عن المحدِّدات العابرة والظرفية كي ترسِّخه ارتباطا بأخرى أبدية.
تظلُّ إشكالية الانتحار،من السلوكيات الإنسانية المنطوية جوهريا غاية أبعد مدى على تأويلات عدَّة،يصعب جدا اختزالها إلى منظور بعينه أو حكم جاهز؛ دون غيره،بل هي إشكالية مفتوحة صوب احتمالات مركَّبَة،معقَّدة،متداخلة،تضمر الشخصي والموضوعي، النفسي والبيولوجي،إلخ.لذلك،يستحيل حصرها ضمن خانة جواب ثنائي على شاكلة إقرار جازم ب ''نعم'' أو ''لا''.
هذه الرؤية الثنائية المجحفة حقيقة،بخصوص واقعة وجودية دقيقة للغاية،ربما ارتقت كي تغدو الحقيقة الجوهرية التي يختبرها المصير الإنساني منذ الولادة غاية الموت، بغض النظر عن مختلف الزلازل الوجودية الأخرى التي يصادفها في طريقه.أقول،بأنها ثنائية تنازعها بالمطلق،تصوران جازمان لامجال معهما لتأويل ثالث :الانتحار شجاعة نوعية،لاتتأتَّى سوى لعتاة حراس الوجود،أو الانتحار موقف في غاية الجبن والانهزام والارتداد،ثم وصمة عار في جبين الإنسانية.
هكذا،تطورت مشارب الفلسفة الوجودية،بخصوص ربط الانتحار بكل مظاهر الانتصار ومختلف تجلِّيات الحرية الإنسانية،وفق أسمى معانيها الوجودية بحيث يتخلَّص الفرد بمحض إرادته من حياة ثقيلة لايرغب فيها،صادفها مضجِرة للغاية أو عبثية بما يكفي،لذلك قرَّر إنهاءها إراديا بكل ما أوتي من قدرة على أن تكون حرّا.
عكس ذلك،يفتقد هذا الفرد لأبسط أسلحة المقاومة نحو الحياة التي تحتاج لعبتها إلى الأقوياء والقادرين على التحدِّي الأسطوري لصخرة سيزيف،من ثمَّة سيظل الانتحار وصمة عار في جبين الإنسانية برمتها.
تواترت باستفاضة،هذه النقاشات الراسخة بخصوص الانتحار،وأنا أتابع الاعتداء الإسرائيلي الحالي على لبنان ضمن حلقات حرب الإبادة في غزة،مستعيدا واقعة إقدام الشاعر اللبناني خليل حاوي إبَّان إحدى أماسي بيروت يوم 5 يونيو 1982،على وضع حدٍّ لحياته،رافضا اعتداءات نفس العدو الهمجيِّ الإسرائيلي دائما على بلده.
صوَّب فوهة بندقية صيد،نحو جمجمته وأطلق رصاصة رحمة أنهت مروره في هذا العالم الظالم على جميع المستويات.حقيقة،اختبرها خليل حاوي شخصيا،عبر مكابدته لأطوار حياة عسيرة منذ سنوات طفولته غاية أن أصبح شاعرا عربيا كبيرا،وأستاذا جامعيا مرموقا،واسما مرسَّخا،فقد استمرت المعاناة النفسية لأسباب عدَّة،حتى صادفت منفذا موضوعيا رحبا،وشرارة أضرمت النار في كل كيانه،حينما عاين من شرفة منزله التي تطلُّ على شارع الحمراء وسط العاصمة اللبنانية،زحف الإسرائيليين واكتساحهم لأول مرة عاصمة عربية.
لقد أحسَّ خليل حاوي باكتمال مشاهد الخسارات،والتئام جليٍّ لأشواطها بنيويا وبكيفية راسخة لارجعة معها،عندئد قرَّر إنهاء حياته والانزواء مطلقا وأبدا إلى صمت القبور،مادامت اللغة،سلاح المبدع الوحيد والأوحد،لم تعد تجدي أو تشفي الغليل قط حيال منظومات العجز والتعفُّن والخذلان واللاجدوى والانحطاط والجنون التي تحياها البشرية على جميع المستويات.
هكذا صار خليل حاوي عنوانا للانتحار والرفض،حارب أسطوريا من أجل حياته وموته،فحضرت مسألة الفداء بنيويا بين قصيدته من خلال بعده المسيحي،مؤكِّدا بطريقته الخاصة قوله النهائي نحو قسوة هذا العالم،وبأنَّ تحديه بالموت الإرادي نتيجة قرار حاسم، اتخذه الشاعر جراء خلاصة حوار مع نفسه،يشكِّل نزوعا نحو اللانهائي من خلال لانهائية الحرية.
نتيجة هذا الفعل الوجودي الاستثنائي،انتمى صاحب المجموعات الشعرية :نهر الرماد(1957)،الناي والريح (1961)،بيادر الجوع(1965)،ديوان خليل حاوي(1972) ، الرعد الجريح(1979)،من جحيم الكوميديا(1979)… ،إلى لائحة شعراء العالم المنتحرين، حصرت الباحثة اللبنانية جمانة حداد(1)عددهم في مئة وخمس وعشرين شاعرا،ضمنهم خمسة عشر عربيا،يعتبر خليل حاوي أبرزهم وأشهرهم :