مقالات نقدية حكايات مدرِّسين من أيّام المدرسة
2025 - 11 - 30

توقّفت حقيقة ذاكرتي عن ترسيخ سيمياء المدرّسين؛وترميم أشلاء مابقي عالقا،مع نهاية حقبة حصولي على الباكلوريا.في المقابل،لم تعد لذات الذّاكرة نفس الانهماك خلال سنوات الجامعة مطلع التّسعينات،وصارت مكتفية تماما بالماضي البعيد جدا في خضمّ عوالم الأمس.

*نهاية مأساوية :

كان المدرِّس الوحيد الذي يأتي إلى المدرسة،بلا محفظة أو تحضيرات أو مجرّد ورقة دالّة تطويها يده.يمرُّ بداية إلى الإدارة كي يحمل حفنة من الطبشور ذي الألوان المتباينة.يرتدي وزرته.يشرع ولم ينبس بكلمة واحدة في ملء السبّورة من ألفها إلى يائها بالمعادلات الرياضية.يهمس في نفسه،ولايلتفت قط وجهة التّلاميذ أو حتى الانتباه لبعض إشاراتهم،بل فقط مصوِّبا اهتمامه كليّا نحو مايكتبه بكيفية متسارعة.

ينتهي.يقذف بجزئية الطبشور صوب السّقف أو الباب،مع تلفُّظه دائما بلازمة''إلى الجحيم أيّها العالم !''.يدسّ يديه في جيبي وزرته.يتسمَّر خارج الحجرة أو بمحاذاتها قليلا. يشعل سيجارة على طريقة نجوم أفلام الويستيرن؛يطفئ الوقود كما تُطفأ شموع عيد الميلاد.يأخذ نَفَسا عميقا.يحدّق في السماء طويلا.

كان أستاذا موهوبا في الرّياضيات،متخلِّصا من بروتوكولات التّدريس المألوفة.لم يعرف عنه مناداته لتلميذ باسمه؛غير مهتمٍّ بهذه التفاصيل وإن درس عنده أحدهم لأكثر من سنة.الجوهريّ بالنسبة إليه،تركيزه على السبُّورة كي يسقط مجمل هواجسه عبر تحليل المعادلات.

مرّت سنوات.شاءت الصُّدف أن أقطن منزلا غير بعيد عن سَكَن هذا المدرّس. طبعا،رغم طول الفترة،انقشعت بسرعة البرق ملامح شخصيته التي مرّت عليها آنذاك اثنا عشر سنة،بمجرّد أن رمقتُ طيفه عابرا بجواري رغم التغيُّرات الجذرية التي رسمت حضوره الجديد بَدَنيا ومظهريا؛قياسا لما كان عليه خلال زمن المدرسة.غير أنّها هيئة لم تكن عادية بل تستدعي الارتياب.جاء حدسي صائبا.باستغراب شديد،بدأتُ أعاين تواجده غير ما مرّة جالسا صحبة جماعة من ''المتشرِّدين''منغمسا في أحاديث على ترانيم قارورات كحولية من النّوع السَّيئ جدّا.

لم تكد تمضي حقبة قصيرة على الرّصد العجيب،حتى سمعتُ ذات ظهيرة زعيقا وعويلا من داخل منزله : مات عاشق الرياضيات بعد نهاية سوريالية تماما،اختبر خلالها التشرّد والإدمان،رغم وضعه المهني والرّمزي.  

*أكلة التّمر المفضَّلة :  

عرفتُ هذا المدرِّس المولع بفاكهة التَّمر،نهاية الطّور الابتدائي.لاحظت وزملائي التلاميذ دائما انتفاخ واكتناز جيب جلاَّبيته بحفن التّمر،لايتوقّف عن رميها بسرعة في فمه طيلة الحصص،كأنّه قوت يلهمه سحر قواعد اللغة العربية التي يعشقها بشكل ملحوظ للغاية.

حضر إلى الحجرة الدراسية باكرا قبل مجيئنا بفترة.يملأ السبُّورة بنصٍّ طويل كتبه بخطٍّ جميل.بعد استواء التلاميذ على مقاعدهم،يتناول عصاه الطويلة والرّفيعة ويشرع في الإشارة على بعضنا قصد تشكيل النصِّ وإعراب بعض جمله،مع استمرار تناوله التّمر. خلال إحدى المناسبات،كاد أن يفقد حياته أمامنا،عندما انفعل بطريقة زائدة وفي فمه ثمرة،فقد استشاط غضبا لأنَّ تلميذا أخطأ تقدير حركة إعرابية.كادت نواة،أن ترضيه قتيلا، لولا تداركه الأمر بعد ثوانٍ لم تكن هيِّنة مثلما تابع كلّ الفصل.

*نظَّارة طه حسين :

لم يكتشف قط أيّ تلميذ عيني مدرِّس اللغة الفرنسية،خلال السنة الثَّالثة من التّعليم الابتدائي أواخر السّبعينات،على الأقلّ،إبّان تلك الحقبة من انتمائي إلى المدرسة.فضاء اشتهر أيضا،بحفرة مظلمة كبيرة مخيفة تشغل الواجهة الخلفية.قيل لنا آنذاك،كي نبتعد،بأنّها مأوى غول عظيم لايغادر الحفرة سوى ليلا.زاد ثِقَل رعب هذا الأمر على نفوسنا كأطفال،أنَّنا صادفنا بين الفينة والأخرى،عظاما بشرية فجّرت إشاعات جانبية تؤَكِّد استيطان هيكل المدرسة على أطلال مقبرة قديمة.

إذن،يسود بجانب ذلك خوف دائم من أشكال العقاب التي يمارسها في حقّ التلاميذ، المدرِّس الذي لم يزح قط نظّارة سوداء تحجب عينيه تماما،واستحال معرفة سرّه : العمى؟ الحَوَل؟عيب خلقي ؟رغم انسياب نسيج جملة تأويلات عبر آذان التلاميذ خلال فترات الاستراحة،بأنّ الأمر لاعلاقة له بالاحتمالات السّابقة،بل مجرّد حيلة للتَّمويه تحديدا عن وجهة نظراته كي يرصد شغب بعضنا، والويل لمن رصده سواد الزّجاجتين.

مقالات نقدية سقطة طبّوخ المدوّية
2025 - 11 - 10

طبّوخ اسمه الحقيقيّ وليس مستعارا،رغم غرابته التّداولية،فتوّة أو''عَزْوة'' أو"اسْبِيرة"- شابّ مغوار لايخشى ولايتراجع قط- دروب طفولتي الأولى،منذ أن فتحت عينيّ وبدأ إلمامي بحيثيات مايجري،التقط سمعي باستمرار خلال أحاديث الأسرة حكايات القوّة الجسمانية لهذا الشّخص ومدى قدرته على هزم من يجرؤ على التحدّي،فاستحقّ بذلك موقع أقوى شخص بإجماع الساكنة،بالتّالي حارس حيِّنا وزعيمه وكذا المرجعية المثالية لشبابه،والموجِّه الرّئيسي لتصرّفاتهم.

انتخاب انتقائي وعرفي،للفتوّة تبعا لتراكم وقائع ترسُّخ اسمه،نتيجة إمكانيات قتالية استثنائية أظهرها مقارنة مع الآخرين،وستظلّ قيادته دائمة يستحيل التطلّع نحو مكانه،إلاَّ في حالة الموت،الاعتلال الصحّي،ثم الهزيمة جرّاء مواجهة ما وخسارته معركة،حينها يلزمه الانسحاب من الواجهة تماما وينزاح متواريا إلى الهامش،كي يخلفه غالبا ''اسْبِيرة'' جديد؛ إن رغب طبعا في تحمّل أوزار المسؤولية الصعبة.

في غضون ذلك يموت صامتا؛كمدا وهمّا وتحسّرا،مثلما حدث للمسمّى ''لْعْقيرَة'' فتوَّة الحيّ المجاور بعد إصابته بمرض عضال لم يكن متوقّعا قط،جعله عاجزا عن مجرّد التخلّص من ذبابة تحطّ فوق شفته فأضحى طيفا مصلوبا أو بالكاد،بعد أن صال وجال لسنوات طويلة يتحكّم في كلّ صغيرة وكبيرة،لكن الحياة لم ترحم مصيره واستمرّ نموذجه يحيل ضمنيا على تجربة الملاكم محمد علي كلاي.  

مقالات نقدية منزل الأشباح
2025 - 10 - 16

يستحيل على تاريخ وعي ذاكرتي نسيان ذاك البيت المخيف والمرعب،القابع نهاره مثل ليله بين طيَّات ظلام دامس،لايفتح سوى نادرا،ولايضمُّ رغم شساعة زواياه المترامية الأطراف؛على طريقة ''الرياضات''المراكشية التراثية،غير ثنائيٍّ شابٍّ،ليس بزوجين مثلما قد يخطر للتَّقدير من الوهلة الأولى،بل أخ  وأخته،مكثا معا في ذلك المنزل لسنوات طويلة بعد رحيل أمِّهما الحاجة غضيفة.عجوز،لازلتُ أستعيد جغرافية سمنتها المفرطة وقِصَر قامتها الواضح مما جعل مشيها صعبا متعرِّجا.بالكاد تتحرَّك،بيد أنَّ لسانها سليط في غاية الفتوَّة والإقدام.  

دوما شَكَّل خروجها من المنزل المخيف المتواجد عند آخر موقع في الدرب الطويل،مشكلة عويصة بالنسبة لي ولأصدقائي، مادام تحرُّكها السُّلحفاتي،يمثِّل إعلانا قبل الأوان عن توقُّف مباراة كرة القدم،لأنَّها أشدّ ماتكره في الوجود لعب الأطفال،بحيث توخَّت باستمرار حين ظهورها رغم عجزها البدني الاستيلاء على كرة،ليست بالضرورة حقيقية بل قد تكون مجرد حزمة بقايا متلاشيات حشونا بها قطعة كيس حليب بلاستيكي تتوسّطه بقرة سمينة حمراء فاقعة اللون،كم كان محتواه لذيذا لاسيما مع جزيئات الزبدة المتراكمة بعد سكب الحليب في الإبريق،لذلك أتسابق وأختي نحو المطبخ قصد القيام بهذه المهمَّة والاستفادة من الغنيمة الطرية.

مقالات نقدية المناضل''الجذري''وعادة الحَكِّ
2025 - 09 - 20

هناك عادات محمودة بما يكفي وأخرى سيِّئة جدا،تعمل الأولى بالتأكيد على تهذيب صاحبها بطريقة إيجابية والارتقاء به صوب مدارج العلا والرِّفعة،بينما تشكِّل الثانية في غالب الأحيان مبعثا للمشاكل ومنزلقا فوريا نحو الدَّرك الأسفل.

انتمى هذا الزميل إلى حلقة الأصدقاء إبَّان سنوات الجامعة،تَعَقَّبَتِ المسكينَ ظلما بعض المشاكل الجانبية،كان في غنى عنها تماما نتيجة عادة مقرفة التصقت به التصاقا، تتمثَّل في عدم توقُّفه خلال كل آن،على حكِّ حاشية أسفل البطن تحديدا بجوار المثانة،دون أيِّ داع يذكر.حركة غير إرادية،تصاحبه مثل ظِلِّهِ.

ربَّما،لن تأخذ العادة مناحيها الفظيعة،إذا كان منفردا بنفسه أو فقط باغتته الحركة بشكل عابر بغير تكرار أو إلحاح،مثلما استفاض توضيحا واستدلالا خلال كل مرَّة،حين معاتبته وتأكيده الواضح عن عدم حاجة تلك المنطقة المحرجة للحكِّ والهرش،بل فقط اعتاد الأمر منذ أن وعى وجوده.

يعترف دون مواربة بأنَّ فعله غير مقبول اجتماعيا،لكنه للأسف غير قادر بتاتا على التخلُّص منه سوى في حالة بتر يديه أو قُيِّدَت خلفه مثلما تفعل الشرطة لحظة اعتقال المطارَدين والملاحَقين.غير هاتين الحالتين،يستحيل عليه التوقُّف لأنَّه سلوك أقرب إلى صنف الدَّواعي الغريزية،ثم يعضِّد تبريره عندما يجد حوله كثيرا من اللَّغط والسُّخرية المريرة،بأنَّ كل واحد من البشر تستعبده حتما سقطات من هذا القبيل :

البصق،التَّفل،التجشُّؤ،فرك الأصابع،تحريك اليد أو الرجل،إخراج جهوري لغازات الأمعاء،التلصُّص،إصدار أصوات حيوانية أثناء الأكل،مصّ مرق الأصابع بعد الأكل،قضم الأظافر،إخراج مخاط الأنف..،وأثناء الزمن الحالي؛غير زمن صاحبنا موضوع هذا الحكي،يأتي في طليعة مختلف ذلك،تصفُّح الهاتف المحمول لحظة التكلُّم مع شخص أو الاستماع إلى متحدِّثٍ،بحيث أضحى سلوكا معتادا ومألوفا لدى الأغلبية لاسيما ضمن صفوف الأجيال التي ترعرعت على أدبيات المنظومة الرقمية،بينما يعكس حقيقة قِمَّة الازدراء والحقارة في نفس الآن.  

تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار