ما الجسد؟ أكثر من كونه منظومة بيولوجية، مفتوحة دائما وباستمرار على اجتهادات سؤال العلم وتراكماته اللامتناهية، سيعكس الجسد،قبل أيِّ حقيقة أخرى تبدو حاضرة ضمن هذا الإطار، أول سبيل ينتقل عبره الإنسان من بؤرة ذاته صوب العالم الخارجي، ثم أول اتصال له بالموضوعي الكامن افتراضا أو موضوعيا- يصعب الجزم- خارج إطار الذات.
يجعلنا الإحساس بالجسد، ندرك معاني الآخرية وفق مختلف حمولتها،الموت نفسه، مثلما أخبرتنا نصوص الديانات،تقف عند حدود تعديم قابلية هذا الجسد،وتعطيل عمله وكذا التحول به صوب جهات أخرى. الموت بكل بساطة، إلغاء لحيز الجسد، وإعادة تحوير هويته من المرئي إلى اللامرئي.
نموت داخل أجسادنا، تتعالى الذات عن منظومة المحدِّدَات المادية الزمكانية، غياب الأجساد جراء واقعة الموت بمثابة عنوان لانقضاء كتلة مادية، نسافر وجهة مكان ثان؛غير المكان المألوف، يغدو الجسد فقط ذكرى مرَّت من هنا، مجرد أثر مادي اقتحم المكان إبان ذكرى، ثم اندثر وتلاشى.
تضفي الأجساد على الموت،حقيقة معلومة بإعطائها سمة اختفاء معطى الحيز المادي، بالتالي تركيز الموت على الجسد. نموت بأجسادنا في هذا العالم،كي نحقق انتقالا مختلفا عن المعطى الراهن، بينما تستمر حيَّة أبد الدهر عناوين معالم تبلور الباطني : روح، فكر، آثار معنوية، نتاجات ذهنية، وإن أضحى "شائعا'' التميُّز الوجودي الذي حظيت به فئة استثنائية على امتداد عصور الإنسانية دون الأغلبية الساحقة، نظرا لما امتلكته من قدرات نوعية استثنائية ذهنية أو فيزيائية؛ مقارنة مع غيرها، أتاحت أمامها إمكانيات لها الترسخ كذاكرة ملؤها بورتريه جسدي، بفضل آثار معنوية خلَّدت الجسد باستمرار فوق كل محو، يستعيد وفقها سيميائيته.
يأتي الإنسان وحيدا إلى هذا العالم، يرحل وحيدا، يتحمل مصيره وحيدا؛ بعد كل شيء. أيضا، وحيدا، يعيش خلال حياته، تجاربه الوجودية النوعية ،ولايمكنه بل ليس في مقدور الآخر تحمّل كاهل تلك المسؤولية الثقيلة بدلا عنه.
إذن، قوام الوحدة أصل حقيقة الإنسان، في حين تظل الآخرية، تجليا عابرا، تنسج خيوط سياقه ذات الإنسان بحكم انفتاح مشروعها صوب أفق ممكنات الموضوعي المفترضة، التي تطويها الذات ضمنيا.
ماهية وجود الإنسان محض وحدة،حيث الذات بمثابة المصدر والغاية،المنطلق والمنتهى، البداية والمآل، إنها حضن ولادته وكذا مرتع مماته. نواة إشكالية الوجود، خريطة الجدليات بين الإنسان وذاته، ذهابا وإيابا، فتأخذ مظاهر متنوعة،أساسها المطلق والجوهري : كيف يستثمر الإنسان ذاته في خضم تعددية العالم؟ ويقدم على خوض معركته المصيرية تلك، قبل أن تدوِّي صاعقة الموت.
يولد الإنسان في خضم الألم والبكاء والدماء، يصرخ المولود نتيجة مخاض ووجع مبهم يختزل كل القادم المفترض بغية تجلي الانبثاق في حالة طبيعية؛ إن غابت الصرخة لحظتها، بدا الأمر على العكس من ذلك، غير طبيعي تماما.
يستقبل الأهل المولود الجديد، فرحين غالبا، أو على الأقل كما تقتضي وتحتم مظاهر سلطة الطقوس والشعائر الأنثروبولوجية.
بما يحتفلون؟ تختلف التأويلات حسب المرجعيات الذاتية والموضوعية، لكنه طقس تعكس حيثياته جوهرا أبلغ من التعبير عن الضجر، مادام إبداء شعور الفرح ينطوي على أقصى مستويات التهكم والكوميديا السوداء، نفرح بماذا؟ ثم لماذا؟.
احتفالا بتخليد الذكرى الخامسة والعشرين لملتقى الأديان،الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1986،فالتأمت آنذاك حلقة موسَّعة ضمت ممثلين عن أديان مختلفة سماوية ووضعية، انعقد مؤتمر كبير يومي 26 و28 من شهر أكتوبر 2011،في مدينة أسيزي الايطالية، تحديدا داخل كنيسة القديس فرانسيس الأسيزي؛ الذي عاش خلال القرن الثالث عشر، ويعتبر أبا روحيا للرهبان الفرنسيسكان. قديس ''توخى دائما أن يَفْهَم أكثر من أن يُفْهَم''، ولا'' أن يحظى بالحب سوى من خلال حبه'' ؛ وأوقظ الجانب الروحي عند النساء مع عمل القديسة كلير الأسيزية.