يعتبر هذا الصنف من المتحرِّشين،الأكثر إنتاجا لمشاهد جنسية مختلسة ضمن مختلف السياقات؛كيفما تجلَّت،لذلك يندرج مدمنو الطَّوابير والتجمُّعات بحثا عن لذَّة عابرة،في طليعة النموذج البشري المقصود بإحالات من هذا القبيل.
هم أكثر جرأة.لايبالون.لايهتمُّون بوجود الآخر.ينقادون كلِّية؛أوَّلا وأخيرا،خلف النِّداء العاجل لنزواتهم الجنسية،الآن وهنا،والمتطرِّفون منهم لايفرِّقون بتاتا بين هويَّة الأطباق التي يصادفونها أمامهم.الأساسي كتلة لحمية جاثمة مكانيا،كي يسرع المتحرِّش إلى التّسَمُّر وراءها بغضِّ النَّظر عن كون الضحيَّة امرأة،طفلا،فتى،عجوزا شمطاء.
يقف جامدا كأنَّه ميِّت من عالم الأشباح،غير مدرك أو آبه بما يفعل.لكن،رغم مجازية موته تستمرُّ شعلة الحياة مشتعلة كليَّة عند مقدِّمة سرواله التي تشتغل بليونة الثعابين كي تجد في نهاية المطاف وضعا ملائما يسعف الاحتكاك المطلوب.
تركت الحافلة تطوي بتؤدة دابَّة شائخة تلك المنعرجات الجبلية الوعرة،رغم جاذبية مناظرها الطبيعية؛حين التوقُّف قليلا وإلقاء نظرة استجمام تأمُّلية.
أحسست برغبة شديدة في النُّعاس،على غير عادتي تماما،ثم غفوت قليلا.استسلمت حواسِّي وانطفأ توقُّدها.افتقد وعيي مايجري حولي.بالكاد أضحيت جثَّة هامدة،حتى اهتزَّ كياني وانبعثت من عدم،نتيجة وقع صوت جهوريّ مزعج.
فتحت عينايّ بصعوبة متثاقلة،فالنوم يسطو على بؤرتيهما.حاولت معرفة مصدر الصوت،إنَّهما راكبا المقعدين الإمامين،رجل متوسِّط العمر،وطفل في بداية عقده الثاني:
-''أوصيتكَ ياهذا غير مامرَّة،عدم السماح لأيِّ شخص غريب بتقبيلكَ''ماتْبوسُ مايْبوسْكْ''وإن على سبيل التحيَّة.قلت لك،اكتف فقط بالمصافحة أو مجرّد تفاعل شفويٍّ مع ابتسامة فاترة من باب التأدُّب !''.
ارتفعت نبرة صوت الأب،فوضعية الطرفين تحيل كليّا على هذه الرَّابطة،بينما بدا الصغير منتبها لمضمون الخطاب،مع ذلك تنمُّ نظراته المترنِّحة عن تيهٍ وعدم استيعاب لمختلف دلالات الوصيَّة الملقاة.
حينما انتهى الرجل،أشاح الطفل بوجهه نحو النافذة،ثم غَيَّر وضعية جلسته إلى شبه استلقاء مفصحا عن رغبته في النوم.
استعادت الحافلة هدوءها السالف بعد الرَّجَّة المباغتة،جرَّاء احتجاج الأب المفترض على سلوك ابنه،ثم انفلات حمولة صوته عن مجاله الخاص.مثلما استعاد المسافرون خمولهم،فالوقت ظهيرة،والشمس عمودية،وهول المنعرجات المستندة على الموت مباشرة،أدخل العابرين عنوة بوتقة صمت خاشع.
بدأت تنتشر رويدا رويدا حكاية هذا الكفيف،بعد أن لاحظ ساكنة الحيِّ سلوكا مشينا،مارسه في حقِّ الآخرين أو بالأحرى الأخريات على امتداد حقبة زمنية،إلى أن صار متداولا تلوكه الألسن حسب سياقات ومقامات الحديث،بكثير من التفكُّه،بنفس مقدار سخطهم وعدم رضاهم،وصبِّ شتى اللَّعنات على رجل يعيش خريف العمر،يتعاطف معه الناس لعاهته المستديمة،فيسرعون إلى الاهتداء به وإرشاده نحو مقصده،بأسرع مما لو حاول فعل ذلك وحده؛وربما تعثَّر وسقط.
دأب طيلة الفترة السابقة عن انكشاف أمره،على مغادرة منزله صباحا؛غالبا بين الثامنة والثامنة ونصف،راغبا في الذهاب إلى المنطقة الأخرى من الحيِّ،المتواجدة عند ملتقى السُّبُل الرئيسة المفضية إلى مختلف دروب المدينة،بحيث يساعده دبيب الحركة وتقاطر حشود العابرين،على الصمود واقفا عند ركن رحب من الشارع والتسوُّل خلال ساعات،ثم العودة مساء إلى بيته الذي يؤويه وحيدا منذ فترة غير بعيدة بعد وفاة زوجته؛ولم ينجبا.
يترك منزله،يبدأ في نسج الخطى قليلا،ثم يشرع في مناداة العابرين :
-''ياأهل الله ! يامحسنين !من يأخذ بيدي ؟أسأل المولى أن لايحرمه من نعمة البصر والبصيرة معا''. يخفض صوته،كي يهمس بنبرة فاترة :
-''آه ! أيُّتها البصيرة ''.
يكاد صوته لايسمع،ويحرَّك شفتيه بكيفية لايلتقط مضمونها سوى من كان بمحاذاته، دون أن يشعر الكفيف بوجوده :
- ''أيُّها العميان،تتوهّمون ثقب عيونكم بصيرة،شتَّان مابين فقدان البصر ونعمة البصيرة !''
حينما كان يلتقي بصري ببصرها،خلال سياق هذه الحكاية؛وقد انقضت الآن سنوات طويلة،تبدو للوهلة الأولى فتاة عادية صاحبة ملامح وديعة ووجه سمح المحيّا،يستحيل أن تظنّ بها الظنون.لكن،بمجرد تبلور هذه الصورة الآدمية باعتبارها شخصا عاديا،حتى تعيد بسرعة إعادة صياغة شكل وجهها السابق،جملة وتفصيلا،كما لو أزالت بجرَّة حركة بسيطة قناعا مصطنعا،تنحرف عيناها فتغدو حولاء،تخرج لسانها من فمها بطريقة مستفِزَّة،فيأخذ طولا عجيبا كأنَّه ظلَّ فقط قابعا داخل جوفها،ثم تشرع في إصدار أصوات غريبة؛تبعثها تباعا وفق ترانيم إيقاعية مضبوطة من قعر بطنها.
عاينتُ مرارا خلال زمن الطفولة،هذه التجربة الغريبة سواء ضمن نطاق حيِّنا أو دروب أخرى في مراكش القديمة،بحيث دأبت الفتاة المجنونة على التِّجوال الحثيث،لايتوقَّف طوافها،تنتقل مشيا من مكان إلى ثان،بسرعة قياسية،لذلك لقَّبها البعض ب''الغابر الظَّاهر''،'' اسْحْتْ الليل''،نتيجة سرعة طيِّها الأحياء وحضورها عبر الأمكنة خلال ظرف قياسي.
أيضا، سُمِّيت ب''مُولاتْ لْما(الماء)''لأنَّها شغوفة بالاستحمام حتى عزّ الشتاء،في تلك السواقي المتواجدة آنذاك على امتداد مسافات متقاربة،بجانب مراحيض عمومية يلجها الذكور أساسا،تقتحمها كثيرا عندما تزداد حالتها سوءا،وقد يحدث الأمر في أوقات حرجة للغاية،لحظات جلوسهم القرفصاء على امتداد مربَّع الحوض المائي الموجود وسطا،نصف عراة تقريبا،بصدد تطهير مؤخِّراتهم وأجهزتهم الأمامية قبل الانتقال إلى المسجد،فتحدث ضوضاء وجلبة،وتبدأ اللعنات تتقاذفها من طرف الجميع والسخط والغضب،ولايخفِّف نسبيا من حدّة ردود الأفعال سوى علمهم بكونها مجنونة،بينما هي تطلق العنان لقهقهات ساخرة وهستيرية مردِّدة عبارة''طْزْزْ يَارْجَالْ آخر الزمان''.