مقالات نقدية إيحاءات الزلزال
2023 - 09 - 14

(1)

أذكر وأنا طفل، تردَّدَت دائما على مسامعي؛ أينما حللتُ وارتحلتُ عند تداول الحديث عن سيرة الزلزال وفظاعة غدر الكارثة ، بأنَّ أصل الرجَّة الأرضية الهائلة، مبعثه عقاب سماوي نحو جماعة بشرية معينة، لأنهم أمعنوا إمعانا في العصيان وارتكاب الخطايا.

 المرحومة جدَّتي نفسها، استعادت هذا التصور بكل تلقائية خلال كل سياق للموضع،غاية أن فاجأتني ذات مرة برأي مغاير تماما؛  شَكَّل حقيقة قطيعة مع التصور السالف، بحيث ونحن نتابع تفاصيل وقائع إحدى الزلازل عبر بوِّابة النشرة الإخبارية المسائية، التي مثَّلت طيلة أماسي ذاك الزمان بداية موعد التئام الأسرة وقد تحلَّقت بأكملها حول شاشة التلفاز الصغيرة حتى الساعة الحادية عشر، فبادرتها متسائلا : '' لا أعرِفُ لماذا تظهر الزلازل، كل هذه الشراسة نحو البشر دون أيِّ مبرر يذكر"؟.

      لكن، بدل استفاضة جوابها ضمن إطار مرجعيتها المعتادة، وتفتِّق مكامن خيالي بمرويات أخرى، ورد جوابها تلك الليلة مختلفا، بإحالتها أصل الزلزال على حكاية ثور عملاق يحمل الكرة الأرضية فوق قرنيه، تناوبيا من الأيمن إلى الأيسر، بحيث عند إنهاك أحدهما من ثقل الحمل الثقيل يمرِّر الأرض إلى قرنه الثاني، لحظتها يحدث الزلزال.

   هكذا بعد قطعها مع التصور الميتافيزيقي، تحوَّلت جَدَّتي صوب التمسُّكِ بالتفسير الأسطوري الجديد؛ كلما طرح النقاش ثانية، بالتالي حاولت دائما في خضم مختلف ذلك تصور حجم الثور، وكذا هالة قرنين بوسعهما تداول مسؤولية الإبقاء على الأرض ثابتة في مكانها.

(2)

استحضرت دائما تأملاتي الشاردة،طريقتين للموت تفزعني كثيرا.ليس الموت في حد ذاته،بل طريقتيه تلك قياسا لأساليب أخرى مختلفة،أقربها حقيقة إلى قلبي،الموت دفعة واحدة،دون انتظار ولا إخبار ولاوداع،في كامل فتوَّتي الجسدية والنفسية،لحظتها يبدأ الفصل الآخر من الرحلة وأنا ممتلئ بذاتي،مدرك لذاكرتها وممكناتها.

أقصد بالطريقتين المشؤومتين :الموت غرقا أو تحت الأنقاض.ألم أكبر من الألم،أو يزيد قليلا.صحيح،هناك من يسعفهم الصمود وينبعثون ثانية إلى سطح الأرض،لكن ربما وفق نمط شخصية جنائزية؛مشروخة تماما،أقرب كينونتها إلى مومياء محنَّطة،تمشي فوق الأرض لمجرد المشي بروح غيبوبة الأموات.

 إحساس تضاعف،لأنِّي عاينتُ عن قرب خلال مناسبات متباعدة فيما أذكر،حضور امرأة تبنَّتها ورعتها إحدى قريبات العائلة؛من جهة أمي.قصة تراجيدية بكل المقاييس،تعود حيثياتها إلى فاجعة زلزال أكادير سنة 1960،بحيث مكثت المسكينة وهي لازالت آنذاك طفلة صغيرة تحت الأنقاض لفترة قياسية،إلى أن انتشلتها بالكاد قوات الإنقاذ،وحينما استعادت قليلا حواسها،اكتشفت بأنَّ جلّ أفراد أسرتها قضوا خلال تلك الليلة الرمضانية المفارقة.حينما تلقَّت الصدمة،لم تتردَّد في مغادرة المنطقة واتخذت وجهتها مشيا مثلما يحكى إلى أن صادفت نفسها في مراكش. 

(3)

طيلة حياتي،لم أختبر بكيفية مباشرة؛ شحما ولحما مثلما يقال،وَقْع زلزال معين. أجواء تلمَّست طبيعتها نسبيا فقط داخل قاعات السينما،أو مشاهدة بعض البرامج العلمية.

سنة 1992،باغت زلزال قوي مدينة القاهرة،تحت وقع هول الجميع مثلما الإحساس حاليا مع كارثة الحوز،فقد شعرتُ إبّانها ربما جراء ارتداد فعلي  غاية مراكش أو فقط تمثُّل وهمي،وأنا منزوي ذات صباح،بتأرجحٍ طفيف لبيتنا القابع وسط عمق مراكش العتيقة.استغرقت الحادثة فترة لايتجاوز زمنها شرارة،لكن بجرعة هلع غير مسبوقة.كيف أمكن لهذه الأرض،وقد عهدتها غاية اللحظة ماثلة عند مكانها،أن تتعثر وتخذل سكينتي؟.

أما المناسبة الثانية،فتعود إلى زلزال الحسيمة سنة 2004 ،بحيث قضيت ليالي وأنا أترقَّب افتراضا احتمال تهاوي،جراء ارتداد ما، كل هيكل العمارة،التي كنت وأسرتي نقطن طابقها السفلي.

ذكريات سيِّئة أضحت في عداد النسيان،إلى حين  ليلة الجمعة 8 شتنبر على الساعة الحادية عشر وخمس دقائق تقريبا،عندما اختبرتُ فعليا دلالة القيامة الآن.

أيام قبل ذلك،افتقدتُ جدوى حواسِّي كما لو أنها غير ملتئمة،غمرني تيه غريب لم أتبيَّن موضوعيا سببا كافيا له،وتعكُّر مزاجي غير مبرَّر.

كنت جالسا على طاولتي أكتب،وبسرعة تفوق إبلاغ التعبير اللغوي،اخترق صوت مرعب زوايا الغرفة،صاروخ أرض- أرض، فارتجَّت ارتجاجا أعقبها تساقط للأشياء.مرَّ النيزك سريعا أو سقط فوق رؤوسنا. استغرقت الواقعة ثوان معدودة،لكنها أرست جذريا قطيعة مع بداهات زمن سحيق.

بدأت أصوات الناس تتعالى تحت شرفتي،انقطع الكهرباء،عمَّ الظلام،ساد الرعب، توطد الفزع، انهار كل ماتبقى من قدرة على التحمل، نتيجة الهشاشة النفسية التي تراكمت، جراء  توالي ارتدادات مفعول شرور زلازل ذئاب البشر التي تتجاوز كل مقاييس ريختر.

أقصى ماتطلعتُ إليه تلك اللحظة من الحياة، صفعة يدٍ خفيَّة، ربما توقظني من كابوس مرعب، فأشعل ضوء الغرفة،أتحسَّس ألفة المكان من جديد،أرتشف قطرات ماء، أستعيد سكينتي، ثم أغضُّ ثانية في نومي.

هيهات !لم يكن التشوُّف وفق المبتغى،بل تعلَّق الأمر جملة وتفصيلا باهتزاز أرضي قوي،جعلني أكتشف لأول مرة في مراكش،أنَّ الأرض لم تعد مثلما عهدتها منذ وعيت وجودي، وكذا الإعلان عن انتهاء رسمي للطمأنينة التي غمرت هذه المدينة قلبا وقالبا، أساسا قبل بداية سنوات توغُّل واستفحال قذارة التوحُّش المالي بشتى ارتداداته الوبائية، المزلزِلة زلزالا، لكل ماهو جميل وعميق ونبيل.

مقالات نقدية مجرى الحياة : ماذا لو عاد الزمان إلى الوراء؟
2023 - 09 - 10

عبارتان قويتان للغاية، تختزلان حقيقة جلّ معطيات الحمولة اللغوية،التي يمكن للإنسان أن يؤوِّل بها و يصيغ ارتساماته بخصوص الحياة،فيعيد غالبا طرحهما ضمن مباغتة السؤال، المنطوية عليه بحدَّة، نفض الغبار عن الرتابة الوجودية،الناجمة عن امتثال الإنسان سلبيا لوقائع الوجود.

الإشارة الأولى :هل أنت سعيد في حياتكَ؟

الإشارة الثانية :ماذا لو عاد بكَ الزمان ثانية إلى الماضي؟ 

غالبا، ما يأخذ الجواب عنهما، برهة قصد إيجاد الكلمات المناسبة أو مساحة عميقة من الصمت، ربما تأملا أو استحضارا لأقصى درجات بلاغة الإقناع؛ مادام الصمت تضمينا افتراضا وقوَّة لكل اللغات الموحية.

تتشكَّل على طريقتها،إيماءات وجه الشخص المقصود بالسؤال، تنخفض نبرة كلامه، ثم يغيِّر وضعية جلسته السابقة بحيث ينمُّ وضعه عن مختلف معاني المباغتة وسمات عدم الانتظار.  

إذن،سؤالان حاسمان،بمثابة حَدَّين أساسين لمصير الإنسان وموقفه من الوجود، تتفرع على ضوئهما باقي الأسئلة الأخرى.

مقالات نقدية مآل الحياة المعاصرة ومرجعية الضمير الدائمة
2023 - 08 - 31

لاأعرف يقينا، تقييم هذا الموضوع في صيغته العمومية، أي طبيعة التصور المتداول بخصوص مآل العالم المعاصر، وكذا المصير الذي تنحدر صوبه البشرية قاطبة.  

طبعا، مثلما يحق لي تماما عدم تبنِّي رأي أحد، لا أراه بحسبي رؤاي الشخصية وجيها ومقنعا. أيضا،لا يحق لي التكلم بلسان أحد، مادامت كل وجهة نظر جديرة أكثر بالإصغاء والتقدير، إن استند تبريرها على وعي نقدي، سجالي، منتبه، وليس تائه،مضلَّلٍ ثم حتما مضلِّلٍ.

إذن، فيما يتعلق بتصوري، أريد التأكيد دون تردّد، بأنَّ العالم المعاصر؛ ومن خلاله نموذج الحياة الراهن، يتهاوى فعليا بخَطٍّ مستقيم نحو الأسوأ،مسرعا كي يعلن رسميا إفلاسه.

هكذا، تُستدرج البشرية للأسف على إغراءات نار هادئة،كي تلج مغمضة العينين أبواب جهنم،بحيث أضاعت الحياة الجارية كثيرا من لبنات التوازن الوجودي الحكيم، فاكتنفت يومياتها، كوابيس مرعبة.

النظام العالمي الجديد،وقد أضحى التوصيف متآكلا،يئِنُّ تحت أوجاع ماصنعه بمصيره،نتيجة إفراطه في جشع مَرَضي متهور بلا دواعي تذكر، سوى دوافع ترسبات الأمراض النفسية المزمنة.

البشرية منهكة كفاية،جراء انخراطها اللاواعي في منظومة تدمن إفراز الأوهام، وتخلَّفت بمسافات معتبرة عن مقتضيات الصواب.

لبّ الإشكالية،احتفال المشهد المعاصر بمعطيات عدَّة،غير موصولة أساسا بجوهر الإنسان،والمرتكزات البنَّاءة التي تمنحه هوية غير زائفة،ويحق لها وحدها أن تشغل زمكانية الوقائع الفاصلة بين الحياة والموت.

مقالات نقدية أعاصير الحياة و أوهام ملاذ المرافئ
2023 - 08 - 20

يمسك بالإنسان عموما، هاجس خوف متأصِّل نحو خبايا المستقبل، نتيجة تخميناته بعدم الاطمئنان إلى القادم، أو بالأحرى، يحيا الراهن يقينا، إلى حد ما، بناء على تقدير مفاده؛أنَّ حقيقته ماثلة بوجه مكشوف أمام نظره،ملموسة بين يديه(طبعا ليس صحيحا؛وإدراك الوقع يبقى نسبيا).

مقابل ذلك،لايترقب الآتي على كتفي القادم بنفس الثقة، ويدرجه مبدئيا ضمن متاهات غياهب المجهول، بالتالي الانحياز أكثر بخصوص هويته إلى اللا-يقين، اللا- أمان، وكذا انعدام شكل مآل معين.

الخوف كنه الحياة، جذرها المكوِّن. يتملَّك الإنسان، يشلُّ قدراته على المبادرة والخلق و إثراء مسارات الحياة. مع ذلك، يستمر رفيقه الأوحد، رغم كل المظاهر المناوِئة. 

لذلك،قيل دائما، وحدهم الشجعان يكتبون التاريخ؛أي يجدون للحياة سبيلا إلى الحياة، وجعلها تأخذ دلالاتها،فتبلور بعد ركود زخم معانيها،جراء صنيع نوعي ومغاير لكل ماسبق، أثاره متجاسر،فأدى سلوكه النوعي إلى تغيير نمطية الحياة السائدة وقد انطوت فقط على أسباب الاستهلاك العقيم، فالموت الرحيم.

 حقا،الخوف اللئيم عدو الحياة.لم تتشكَّل أبدا معالم حياة خالقة وخلاَّقة تحت كنف الخشية والتقوقع،بيد أنه أراد الإنسان أو استعاذ، يجثم الخوف هنا،بالتالي يقضي حياته ملاحِقا أوهام التخلُّص من  ثِقَلِ الخوف على سلاسة أنفاسه،غاية لقائه الموت الذي  مَثَّل عموما خوفا عظيما ثم فزعا لايضاهى، يكشف في نهاية المطاف حقيقة،كل هذا الخوف الضمني بخصوص شيء ما.

أوضحت دائما سيرورة الحياة،بأنَّها واقعة متمرِّدة،لاقانون يحكمها،بينما تسود جميع القوانين،وتتأرجح علاقة الإنسان حسب تفاعل صنفي فريقين : 

*الارتيابيون :تسكنهم نزعة شكِّية،نحو ممكنات الحياة واحتمالاتها.تختلف مستويات النزوع حسب درجات توقُّد الوعي الوجودي لدى صاحب التصور.يتأمل هذا الصنف الحياة من فوق،تاركا دوما مسافة حيال معطياتها. لذلك،لايهتم هؤلاء بالإصغاء إلى توالي نداء دعاوي الحياة،ثم يرحلون غالبا عن العالم بأقلِّ الخسائر الممكنة.

*أهل الرَّتابة الخَطِّية :يضمُّ الصنف ويحتوي تفكير الأغلبية الساحقة من البشر،بحيث ينظرون إلى مجريات  الحياة وفق اطمئنان منطقي ورتابة خَطِّية.تستند الجماعة إلى رؤية تفاؤلية، بخصوص ممكنات الحياة، فالواقع عين العقل، ولايعمل سوى على بلورة فكرته الكلِّية، بتجسيده متواليات الحقيقة المطلقة.

تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار