لم ينجز جاك ديريدا،دراسة متكاملة حول المسألة الفلسطينية أو الصِّراع الإسرائيلي-الفلسطيني.بل تواترت على امتداد صفحات كتاباته،أفكار انصبَّت على مأساة الفلسطينيين وكذا المتواليات السياسية للدولة الإسرائيلية.
لكن مؤلَّفاته المرتبطة بسياق حقبة خمس وعشرين سنة الأخيرة من حياته،ألحَّ اهتمامها على الانشغال بالفلسطينيين،بحيث أبدى ديريدا تضامنا حقيقيا نحوهم،وأظهر رغبة استثنائية بهدف مصاحبتهم مثلما تجلَّى ذلك واضحا من خلال كتاباته ومداخلاته بواسطة مختلف الأشكال والسجلاَّت.
نعاين في طليعة ذلك السجِلِّ العاطفي،وكذا التأثير الناجم عن هذه الواقعة أو تلك،ثم هذه الحلقة أو تلك ضمن حيثيات المأساة الفلسطينية.هكذا،كتب بين فقرات كتابه''رنين الجرس''،متحدِّثا عن جان جنيه :''لقد أخبرني البارحة عن تواجده في بيروت،صحبة الفلسطينيين في حالة حرب،معزولين ومحاصَرين''؛قبل إضافته:''أعرف بأنَّ مايثير اهتمامي،ارتبط دائما مكانه ب هناك،لكن كيف أظهر ذلك''.(1)
عندما خَصَّص،ديريدا انطلاقا من هذا العمل المنتمي إلى مشاريع كتاباته الأولى،حيِّزا كبيرا إلى القضية الفلسطينية بجانب الأسئلة المهمَّة التي تستدعيها،فقد ساهم بخصوص إضفاء الوضوح على القضية،وضرورة الإصغاء،إبّان لحظات افتقد الفلسطينيون لذلك كثيرا.
لاحظنا ضبابية المنظور نحو الفلسطينيين،ليس فقط عند الجمهور العريض الذي تعبث به وسائل الإعلام و تضلِّله،لكن أيضا لدى فلاسفة مثل ميشيل فوكو أو جان فرانسوا ليوتار،وضع يدعو أكثر للشَّفقة حينما يتعلق الأمر بعقول كبيرة انشغلت أحيانا،بذكرى ونتائج التراجيديات الجسيمة.
استحضر الكاتب جون ماكسويل كوتز المنحدر من جنوب أفريقيا في مقالاته الأدبية،التي تُرْجِمت إلى الفرنسية تحت عنوان :''من القراءة إلى الكتابة''،الشاعر بول سيلان الذي سافر للمرة الأولى إلى إسرائيل عام 1969 و''أبدى اندهاشا متهكِّما'' :''يوجد هنا كثير من اليهود،فقط اليهود دون ملجأ!''(2).
يمكننا طبعا التفكير في أنَّ صرخة من هذا النوع أملتها خاصة غيتوهات اليهود في أوروبا الشرقية وكذا المحرقة التي أدَّت إلى فَقْدِ ذويهم وكذا جزء كبير من طائفتهم،لكن بوسعنا الاستغراب حقا في الوقت ذاته بخصوص عدم انتباه الشاعر العميق إلى وجود الفلسطينيين الذين مَثَّلوا حسب مصادر البلدية الإسرائيلية نفسها،مايناهز ثلثي ساكنة مدينة القدس التي زارها.لكن عبارة''فقط اليهود''(التي يمكن ترجمتها أيضا ب"سوى اليهود'')تثير الاستغراب،وتتعارض في كل الأحوال،مثلما سنرى،مع الحياة التي توخَّاها ديريدا لليهود عامة،ثم دولة إسرائيل خاصة.
يشكِّل حتما التحرُّر السياسي،تقدُّما كبيرا.صحيح،ليس بآخِرِ صيغة للتحرُّر الإنساني،لكنه يعتبر كذلك حسب نظام العالم الحالي.أقصد جيدا :التحرُّر الواقعيّ والفعليّ.
يتحرَّر الإنسان سياسيا من الدين،باستبعاده من قانون عام إلى حقٍّ شخصيٍّ.لم يعد قط فكرا للدولة أو الإنسان،مع أنَّه يسلك وفق كيفية خاصة ومحدودة وضمن دائرة شخصية، مسلك كائن مشترك،بكيفية جماعية مع بشر آخرين؛لقد أضحى فكرا للمجتمع البورجوازي،مجالا للأنانية،ثم حرب الجميع ضدَّ الجميع.انتقل تماما من ماهية للجماعة،إلى أخرى تقوم على التَّمييز.هكذا،استعاد وضعه الأصلي؛بحيث يجسِّد ابتعاد الإنسان عن الجماعة،وذاته وكذا باقي الأفراد.صار فقط تأكيدا مجرَّدا للعبث الشَّخصي،ونزوة فردية،ثم الاعتباطي.
مثلا التَّفتيت اللانهائي للدين في أمريكا الشمالية،أضفى عليه سلفا صيغة خارجية بخصوص مسألة شخصية كليّا. اخْتُزِلَ إلى دائرة الاهتمامات الشخصية واسْتُبْعِد عن الجماعة،وأخذ طبيعة ماهيته.لكن،لاينبغي الانخداع فيما يتعلق بمستوى حدود التحرُّر السياسي.انقسام الإنسان بين العمومي والخاص،تحوُّل الدين بانتقاله من الدولة إلى المجتمع البورجوازي،مختلف ذلك ليس مرحلة،لكنه فعلا بمثابة استكمال لتحرّر سياسيٍّ،لم يلغ بتاتا التديُّن الفعلي للإنسان أو حاول ذلك.
ليس تقسيم الإنسان إلى يهودي ومواطن،بروتستاني ومواطن،إنسان متديِّن ومواطن، كذبا على النظام السياسي ولامحاولة تتوخى التملُّص من التحرُّر السياسي؛بل هو التحرّر السياسي نفسه،الطريقة السياسية للتحرّر من الدين.
طبعا،خلال حقب انبثاق الدولة السياسية بقوَّة من المجتمع البورجوازي،وتطلُّع الانعتاق الفردي الإنساني كي يتحقَّق وفق صيغة انعتاق شخصي سياسي،بوسع الدولة ويلزمها العمل على إلغاء الدين،غاية اندثاره،لكن في إطار أقصى سعيها،التخلُّص من المِلْكية الفردية،بالمصادرة،من خلال الضريبة التصاعدية،ثم إلغاء الحياة عن طريق المقصلة.
إبَّان لحظات وعي الدولة بذاتها،ترنو الحياة السياسية صوب كبح شروطها الأوَّلية، المجتمع البورجوازي وعناصره،كي ترتقي نحو حياة عامة للإنسان حقيقية ومطلقة.غير أنها،لايمكنها بلوغ هذا الهدف سوى إذا وضعت نفسها في تناقض عنيف مع شروط وجودها الخاصة،بإعلان الثورة على الدولة الدائمة؛أيضا هل تنتهي بالضرورة المأساة السياسية من خلال ترميم الدين،المِلْكية الفردية،ومختلف عناصر المجتمع البورجوازي،مثلما تنتهي الحرب بالسَّلام.
أكثر من ذلك،ليست الدولة المسيحية النموذجية،أو المفترض بأنَّها مسيحية من تقرُّ بالمسيحية أساسا لها،وديانة للدولة،وتتَّخذ بالتالي موقفا استثنائيا حيال الديانات الأخرى؛ لكنها بالأحرى الدولة الملحدة،الديمقراطية،التي تلحق الدين بباقي عناصر المجتمع البورجوازي.الدولة التي مازالت لاهوتية،وتجاهر دائما رسميا بالعقيدة المسيحية،ولم تجرؤ بعد كي تعلن على نفسها وفق نموذج علماني وإنساني،في خضمِّ حقيقتها كدولة،الأساس الإنساني حيث المسيحية بمثابة تعبيره المتعالي.الدولة المسمَّاة مسيحية،ببساطة دولة غير موجودة؛بالتالي،ليس المسيحية كديانة،بل تحديدا الخلفية الإنسانية للدين المسيحي الذي بوسعه التبلور في إطار إبداعات إنسانية حقا.
تعتبر الدولة المسمَّاة مسيحية،إلغاء مسيحيا للدولة،وليست قط تنفيذا سياسيا للمسيحية.الدولة،التي لازالت تعتنق المسيحية في صيغة دينية،لم تعد تجاهر بذلك من خلال إطار الدولة،مادامت تحتفظ للدين بوضع ديني.بعبارات أخرى،دولة من هذا القبيل ليست تجسيدا حقيقيا عن الخلفية الإنسانية للدين،لأنَّها موصولة دائما بالوهمي،وكذا الشكل المتخيَّل لهذه النواة الإنسانية.
الدولة المفترضة مسيحية،دولة غير كاملة،والديانة المسيحية بالنسبة إليها مجرَّد تكملة وكذا تقديس لهذا القصور.حتما يصير الدين وسيلة؛إنَّها دولة النَّفاق.هناك فرق كبير بين الواقعتين :إما تؤخذ الدولة المثالية بعين الاعتبار،نتيجة غياب ضمني لماهية الدولة العامة،فالدين ضمن شروطها؛أو تعلن الدولة غير النموذجية،الدين كأساس لها،نتيجة خلل ملازم لوجودها،بمعنى دولة غير سويَّة.بناء على هاته الحالة الأخيرة،يتحوَّل الدين إلى سياسة معيبة.فيما يتعلق بالحالة الأولى،يتجلَّى من خلال الدين قصور السياسة المثالية.تحتاج الدولة التي يفترض كونها مسيحية إلى الديانة المسيحية،حتى يتحقَّق اكتمالها كدولة.
الدولة الديمقراطية،الحقَّة،في غير حاجة إلى الدين قصد إظهار اكتمالها السياسي.يمكنها،عكس ذلك،تجاهل الدين،فبالنسبة إليها يتجلَّى المنحى الإنساني للدين بكيفية دنيوية.مقابل ذلك تماما،تستند الدولة التي تصف نفسها بالمسيحية،على موقف سياسي من الدين،ثم موقف ديني من السياسة.إذا انحدرت بالأشكال السياسية إلى واجهة فقط،فإنَّها تفعل نفس الأمر مع الدين.
تجلَّت خلال سنوات الثلاثينات،من القرن العشرين،بين طيَّات الأدب العربي المعاصر،إرهاصات مشروع أدب فلسطيني خالص.
مع ذلك،لم تكن فلسطين قبل هذا التاريخ،أرضا جرداء على المستوى الشعري والأدبي.
استمرَّ تراث كبير للقصيدة الشعبية الشفوية،مثلما جرى في مناطق مختلفة من العالم العربي.قصيدة بلا معالم واضحة،ملحمية أو غنائية،عاطفية أو هجائية،دينية أو دنيوية،أحاطت بالمهامِّ واليوميات،الأفراح والأحزان،من خلال الإنساني وكذا الحكمة الشعبية.
أشكال تعبيرية أدبية أخرى (حكايات،أقوال مأثورة،ألغاز)تغذِّي الخيال، تستدعي التاريخ في بعده الأسطوري،تحيل على مبادئ أخلاق التعامل.
أيضا،وُجِدَ أدب مكتوب،دون أن تشغله نفس التزامات الأدب الشعبي نحو الأرض وكذا الحقائق الفلسطينية.
لم تسمح الحقيقة الجيو-سياسية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط(خلال فترة الحكم العثماني،أطلِقت تسمية أرض الشام على مجموع منطقة سوريا،فلسطين،لبنان) بتبيان تلك السِّمات الوطنية التي بوسعنا معاينتها اليوم.هكذا،اعتُبر مبدئيا عربيا،كل مثقَّف يكتب سواء في دمشق،القدس أو بيروت.
أن يولد أو يعيش داخل هذه المنطقة أو تلك من الإمبراطورية العثمانية،لايضفي على إنتاجه خاصية قومية معيَّنة.أما الحدود،التي تشكَّلت بعد ذلك ثم ''الشعوب''أو ''الأوطان''،فهي حصيلة و نتيجة تجزئة المنطقة بين مختلف القوى الاستعمارية.لذلك،بوسع عدَّة بلدان في منطقة الشرق الأوسط،غاية الوقت الحاضر،تبنِّيها اسم مثقَّف أو كاتب لم يكن يهتمّ قط خلال حياته،بانتماء من هذا القبيل.
تدريجيا،أرسى الاختراق الاستعماري،الذي أقام حدودا بين مختلف مكوِّنات نفس الجسم الاجتماعي والثقافي،وضعيات مختلفة،سياسيا،اقتصاديا،وثقافيا.سياق،اقتضى من المجموعات العربية،التي اختبرت هذه الوقائع الجديدة،اعتماد كل واحدة على نفسها قصد المحافظة على هويتها والعثور على سُبُلِ حريتها.
تبلور في غضون هذا التطور،وعي مختلف عن السائد طيلة قبضة الدولة العثمانية ذات المرجعية الاثنية-ثقافيا ودينيا.أقصد،ولادة وعي''قومي"،كظاهرة غير معلومة قبل ذلك، في الأرض العربية.
إذن،ليس صدفة تحديد سنوات الثلاثينات،باعتبارها حقبة زمنية شهدت انبثاق مشروع أدبي فلسطيني.إنَّها فترة المقاومة العربية الفلسطينية خلال الانتداب البريطاني،وكذا المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين،بين سنوات 1917 و1948،ومرحلتها الأكثر زخما تعود إلى سنوات الثلاثينات،حيث بلغ ذلك ذروته مع ثورة سنة 1936 العامة.
شهدت،هذه الفترة تحديدا،بروز الجيل الأول من الشعراء الروَّاد :إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود،عبد الكريم الكرمي.
يمكن تمييز قصيدة هذا الجيل بالملامح التالية :
*الامتثال الصارم لقواعد العروض والأشكال الراسخة للقصيدة العربية الكلاسيكية. بالتالي،استُبعد هاجس التجديد الجمالي؛
*حمولة إيديولوجية قوية ذات خاصية قومية.يتعلق الأمر بقصيدة أملتها بكيفية فورية مهام النضال الوطني.يضاف إلى ذلك،''التزام''الشاعر بقصيدته،ثم مباشرة،المعركة السياسية؛
*انتفاء كل عنصر ذي طبيعة ذاتية،بحيث تنازلت''أنا''هذه القصيدة التحريضية، لصالح"نحن"؛
*تأثير جماهيري ملحوظ. جَسَّد شعراء هذا الجيل استمرارية لتقليد القصيدة الشعبية. كتبوا قصائدهم،ثم تداولتها بعد ذلك شفويا التجمُّعات والتظاهرات الشعبية.
بالنظر إلى هذه السِّمات،قد تبدو مجازفة جعل إنتاج هؤلاء الشعراء منتميا إلى القصيدة الفلسطينية المعاصرة.بيد أنه إذا كان صحيحا،عدم إمكانية تحديد راهنية هذه القصيدة عبر مستوى تجدُّد الأشكال وقطيعة جريئة تقريبا مع التراث،مع ذلك،يبقى التأويل ملموسا فيما يتعلق بمضمون هذه القصيدة وكذا الوعي الذي عبَّرت عنه و أذاعته.
بل يمكننا القول بأنَّ مكمن قوتها وأصالتها،الدور الذي لعبته على مستويين :
-الجانب التَّقليدي أو بالأحرى،المتَّصل بتراث طويل،جعل من الشاعر العربي منذ الفترة الجاهلية،متحدِّثا باسم قبيلته(أو شعبه)،والملهِم الإيديولوجي،وحارس الذَّاكرة، والشخص المعتمد لإصدار الشَّتائم والهجاء،والضمير الحيّ.لقد أدَّى الشاعر الفلسطيني المنتمي إلى جيل الروَّاد،هذه الوظيفة التقليدية كمرشد وجامع،لكن ضمن سياق جديد :
-بينما ارتكز الجانب المعاصر،نحو الارتقاء وجهة ذكاء العصر وكذا الحقيقة الواقعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني.مما أتاح إمكانية بلورة أولى لبنات عناصر وعي وطني.
تقديم :جرت وقائع هذه الجلسة الحوارية القصيرة،بمناسبة إصدار المجلة الفلسطينية''دراسات فلسطينية''في باريس، بين جيل دولوز و إلياس صنبر،كاتب ودبلوماسي فلسطيني ولد سنة 1947،عضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ1988.عُيِّن سنة 2005مندوباً لفلسطين لدى هيئة اليونسكو،جمعته صداقة حميمة مع الفيلسوف دولوز منذ نهاية سنوات السبعينات.
ترجم إلياس صنبور أعمال الشاعر محمود درويش إلى الفرنسية،كما أصدر بنفس اللغة مجموعة دراسات،ضمنها على سبيل التمثيل: ''فلسطين1948،التهجير''(1984)، ''فلسطين،بلد المستقبل''(1996)،''ثروة الغائبين''(2001)،''الفلسطينيون :صورة فوتوغرافية حول أرض وشعبها منذ سنة 1839 غاية اليوم''(2004)،''رموز فلسطينية :هوية الأصول،هوية الصيرورة''(2004)،''معجم عشق فلسطين''(2010)،"تبسيط فلسطين أمام العالم قاطبة "(2013)،إلخ.
جيل دولوز :يبدو بأنَّ شيئا معيَّنا قد أضحى ناضجا،لدى الفلسطينيين.لهجة جديدة،كما لو أنَّهم تغلَّبوا على الوضعية الأولى لأزمتهم،ولامسوا منطقة اليقين أو الطمأنينة،و''الحقّ''، مما ينمُّ عن وعي جديد،وإمكانية مخاطبتهم كل العالم بطريقة مختلفة،لاتهاجم ولا تدافع،بل ''النَّدُّ للنَّدِّ''.فكيف تشرح هذا الأمر،مادام الفلسطينيون لم يبلغوا بعد أهدافهم؟
إلياس صنبر :لقد شعرنا بهذا التَّفاعل منذ صدور العدد الأول من مجلة ''دراسات فلسطينية".هكذا،تحدّث البعض باللهجة التالية :''عجيب هل تمكَّن الفلسطينيون من خلق مجلاَّت كهاته''.عبارة،تخلخل داخل رؤوسهم صورة راسخة.أعتقد،بأنَّ صورة الكثيرين حول المقاوِم الفلسطيني،تظلُّ في غاية التجريد.قبل أن يفرض الفلسطينيون حقيقة حضورهم،فقد اعتُبروا مجرَّد لاجئين.وعندما فرضت المقاومة الفلسطينية واقعا يربط بين الوجود الفلسطيني والمقاومة،فقد احتُجِزَ الفلسطينيون ثانية ضمن إطار صورة نمطية ومُختزلة،محض عسكرية،تضاعفت بكيفية لانهائية ومعها الإبعاد،وإبقائهم كليّا ضمن دلالتها.يفضِّل الفلسطينيون قصد انتشال ذاتهم من التصنيف الماثل،صورة مقاومين بدل عسكريين بالمعنى الضيق.أعتقد بأنَّ الاستغراب حيال ظهور مجلة دراسات فلسطينية مصدره أيضا ضرورة بداية تأكيد البعض على وجود الفلسطينيين وليس فقط الوقوف عند حدود التذكير بالمبادئ المجرَّدة.إذا كان مبعث هذه المجلة فلسطين،فلن تشكِّل على الأقل فضاء يعكس اهتمامات مختلفة،ويتناول الكلمة بجانب الفلسطينيين،العرب،الأوروبيين، واليهود،إلخ.ينبغي خاصة على البعض بداية إدراكهم،أنَّه في حالة تبلور مشروع من هذا القبيل،وفق تعدُّد المنظورات،فيلزمهم على الأرجح تبنِّي مستويات فلسطينية أخرى،عبر فنانين تشكيليين،نحَّاتين،عمال،مزارعين،روائيين،مصرفيين،ممثِّلين،تجَّار،أساتذة…باختصار مجتمعا فعليا يحيط به إصدار مجلة''دراسات فلسطينية''.ليست فلسطين فقط شعبا لكنها أرضا،إنَّها الصِّلة بين هذا الشعب وأرضه المستلبة،ومكان يجسِّد مشاعر الغياب والتطلُّع الكبير قصد العودة ثانية.مكان منفرد،بلورته مختلف أنواع التهجير التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ 1948 .حينما تغدو فلسطين أمام أعيننا،ندرسها،نفحصها،نقتفي أثر أبسط حركاتها،نوثِّق كل تغير يحدث،نتمِّم مختلف صورها القديمة،بالتالي لن تغيب قط عن نظرنا.
جيل دولوز : عدَّة مقالات في مجلة دراسات فلسطينية استعادت وقاربت بكيفية جديدة الوسائل التي طُرد بها الفلسطينيون من أرضهم.مسألة مهمة جدا،لأنَّ الفلسطينيين ليسوا في وضعية أشخاص مستعمَرين،بل نازحين ومطرودين.تركِّزُ اهتمامكَ في الكتاب الذي تهيِّئه على المقارنة مع الهنود الحمر أو أصحاب ''البشرة الحمراء''(2).يرتكز النظام الرأسمالي على موقفين مختلفين جدا.أحيانا يتعلق الأمر بالإبقاء على شعب فوق أرضه،لكن تسخيره واستغلاله قصد مراكمة الفائض : ماننعته عادة استعمارا.أحيانا أخرى،قد تُفرغ أرض من شعبها،قصد تحقيق قفزة إلى الأمام،ثم إمكانية الإتيان بأيدي عاملة من مكان ثان.لقد مرَّ تاريخ الصهيونية وإسرائيل مثلما جرى في أمريكا،من السؤال التالي :كيف نخلق الفراغ،وكذا السبيل إلى تهجير شعب معين؟أشار ياسر عرفات في حوار أجري معه،إلى حدود هذه المقارنة(3).حدود،ترسم أيضا منظور مجلة دراسات فلسطينية:هناك عالم عربي،في حين لم يمتلك الهنود الحمر أيّ قاعدة أو قوة خارج الأرض التي طُردوا منها.