بهدف تحقيق السعي الذي أتوخَّاه والمتمثِّل في إبراز الصور الأدبية ضمن راهنها،يمكن اعتبار صورة طائر العنقاء لم يُستحضر قط اسمه أكثر قيمة من قصيدة تعليمية.سأحاول تجميع بعض الأمثلة عن''طيور العنقاء الضمنية''التي توضِّح لنا بأنَّ طائر العنقاء بمثابة نموذج أولي عن خيال النار.
حدَّد جان أندري وولWahl عبر مقاطع قصيدة كتبها أولا بالانجليزية ثم ترجمها بنفسه إلى الفرنسية(22)،سمة فلسفية أساسية حول الطائر المدهش،''الطائر السعيد''،تتجلَّى في حضوره''دونما سبب''،وقد انتشلته تماما بهجة إيقاظ الكون.
لاأعرف هل أدرك جان وول،الذي يستشهد بهيرقليطس،توهُّج قصيدته في خضمِّ أسطورة طائر العنقاء.صورها جديدة للغاية تدفعني للإقرار بإعادة تحديث الأسطورة،إنَها أسطورة تولد من جديد بل خلال مرتين.أيّ سعادة تحظى بها القراءة حينما نعيش القصيدة من خلال لغتين،بالتالي تخيُّلها وتأمُّلها مرتين،ثم التحرُّر من تقليد أدبي متحجِّرٍ !
هاهي قصيدة : طائر السعادة
بفضلكَ،سعادتي متوازنة،
هكذا،دونما سبب
وسط هذا العالم العميق و الشاحب،
ليست مثل سعادة الصوفيين العقلانية،
لكن على منوال هيراقليطس الذي يضحك أو جوقة كوميدية وسط بروميثيوس،
دونما سبب،أنتَ سبب وجودكَ،
يثقلني ابتلاع زفرات،ثم رشيق نتيجة أشعَّة تجمَّعت،
أتأملكَ تحلِّق بقوة وتهتزُّ مع ارتفاع خفقان أجنحتكَ؛
ثم تخترق الزمان بشدوِ توقُّدكَ،وتلدغ الأبدية.
حاليا،أرهفُ السمع إلى صرختكَ الناشئة،
سعادة طائر !
يبحث جان وول،بين طيات تأويله لولادة قصيدته(23)،عن حصر أسماء فلاسفة كبار سابقين ألهموه فعليا طائر السعادة.لم يحدِّد اسما بعينه،لذلك أشار إلى كيركجارد،نيتشه بل وديكارت.أيضا،يتذكَّر صورا شعرية لويليام ووردزورث و وبيرسي شيلي…ثم تشعرنا السطور الأخيرة لحديثه،بأنَّ اندفاع الطائر السعيد بمثابة تجاوز للحزن الجذري،بحيث يستحضر كيركجارد وهيدغر.
باعتباري شخصا ينحدر من منطقة شامبانيا،أرى جان وول مَرِحا يبحث بلا جدوى ضمن حيثيات الجوانب الفكرية في ثقافته عن الحافز المبدع الذي يتأتَّى منه طائر السعادة.بالنسبة إليَّ،الجواب عن تساؤل جان وول بسيط للغاية :القصيدة بدورها مثل طائر يتقلَّب بين أحضان الأبدية الصادحة،قصيدة بلا سبب مباشر نفسي أو ثقافي،قصيدة تسمى طائر العنقاء.
يجسِّد الشرود الشعري للفيلسوف- الشاعر،حول طائر السعادة،انكشافا لنمط بدائي أولي.يعتبر،مثلما الشأن مع مختلف الأفعال المبدعة،مصدرا لكل شيء يحدث بلا سبب،غالبا بكيفية أولية،مخترقا بوثبة بؤس التاريخ النفسي الذي يشكِّل موضوع أبحاث الأخصائي والطبيب النفسي.يشبه الفعل الشعري فعلا أساسيا يتجاوز دفعة واحدة الصور المرتبطة بالواقع.يبتهج طائر السعادة لدى جان وول،إبَّان التحليق مثلما يتحدث مقطعان شعريان كبيران لويليام بليك استشهد بهما جان وول عند فقرة أخرى من كتابه(24) :
س-أصدرت مجلة الأزمنة الحديثة سنة 1967،عشية حرب الستَّة أيام،عددا خاصّا اهتمت موضوعاته بحيثيات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.ساهم في تدبيج المقالات عرب و إسرائيليون وبعض كتَّاب استئصال اليهود إلخ،وقد افتتح العدد ماكسيم رودنسون بمقالة عنوانها :''هل إسرائيل واقعة استعمارية؟".بناء على دلائل تاريخية،سيقدم جوابا إيجابيا على السؤال.مرَّت الآن ثلاثون سنة على تاريخ كتابة تلك المقالة،ثم ثلاثة حروب وكذا الانتفاضة بينما تحتفي الدولة العبرية بذكراها الخمسين.فهل لازالت تحتفظ بنفس التصوُّر منذ تلك الفترة غاية صيف 1998؟من جهة أخرى،اهتمَّ من صنِّفُوا كمؤرِّخين إسرائيليين جدد(توم سيغيف،بيني موريس…)بمراجعة تاريخ إسرائيل منذ سنوات فانتهوا إلى خلاصات تسير تقريبا ضمن نفس المعنى.مارأيكَ بهذا الخصوص؟
مكسيم رودنسون :لم تفتقد بعد مقالتي مضمون راهنها،لاسيما إذا تمسَّكنا بنفس منطلقات التحليل. فيما يتعلق بي،استمرَّ وفائي لما قلته سابقا وأعتقد بأنَّ مايحدث منذ تلك الفترة يعضِّد للأسف ماقلته سنة. 1967كثير من المعطيات الجوهرية-تناولها الآن المؤرِّخون الجدد وطوروها بتفصيل أكثر- متاحة سلفا أمام من يتمتَّع قليلا برغبة البحث وكذا تسليط الضوء عليها.بوسعي ثانية استعادة بعض العبارات الواردة كاملة.تغيُّر الوضعية،ترجمته فقط ارتدادات،لاسيما مع بنيامين نتنياهو.نعيش الآن وضعية قريبة من التي اختبرناها سنة 1967،وأتطلَّع نحو سبل الخروج منها.نلاحظ بالتأكيد،وعيا بهذه الإشكاليات لاسيما مع هؤلاء''المؤرِّخين الجدد". لكنها فقط بداية مسار لاأظنُّه سيأخذ وتيرة سريعة.يوجد داخل إسرائيل أشخاص يفهمون الأشياء مثلما أفهمها،لكنهم أقلِّية جدا.نعاين ضمن الوسط الفكري انفتاحات معينة على قلَّتها كذلك،بالتالي لاأعتقد في إمكانية تأثيرها على الرأي العمومي للجماهير .
س- يقول ريغين دهوكوا كوهين :''يعتقد الكثيرون بأنَّ إسرائيل ليست دولة مثل باقي الدول.هل توافقون على هذه الصيغة ؟كيف يمكننا بحسبكَ تحديد دولة باعتبارها على شاكلة باقي الدول ؟".
مكسيم رودنسون : من الواضح أنها ليست بدولة مثل الدول الأخرى،لأنها تستند على قاعدة''الأسطورة المؤسِّسة''،مثلما قال روجي غارودي (المفهوم مستعار من كتاب إليزا مارينستراس حول الأساطير التي شكَّلت الولايات المتحدة الأمريكية).يعتبر الإسرائيليون أنفسهم كورثة شرعيين للوطن الإسرائيلي القديم الذي يعود إلى عهد موسى،على الأقل أربعة عشر أو خمسة عشر قرنا قبل المسيح،يضاف إلى ذلك أو تجاوره، تلك الرواية الدينية، بمعنى :''نحن على هذه الأرض لأنها إرادة الله''. تلقيتُ ذات يوم رسالة من طبيب يهودي فرنسي مشهور جدا،صاحب"اختبار باروخ"،قال لي : "اليهود هم أصحاب الأرض الشرعيين منذ دائما،والعرب يشغلون وضعية مستأجِرين دون عناوين''('' ضمنيا :يحق طردهم'').غريبة هذه النظرة إلى العالم. نظرة قديمة،دينية ضمن أخرى،يمكننا العثور عليها ثانية مثلا في التلمود. تُتخيَّل بداية العالم حسب الطريقة التالية :وزَّع الله الأرض بكيفية أبدية،مانحا تشيكوسلوفكيا إلى التشيكيين والسلوفاكيين،وفرنسا إلى الفرنسيين،ثم إسرائيل للإسرائيليين.هذه المقاربة محض أسطورية و لاهوتية.
لنتذكَّر بأنَّ نيتشه وضع الموسيقى تحت إشارة طائر العنقاء،''طائر العنقاء الموسيقي''بحيث تضاعفت صورة الانتعاش :''سأروي حاليا حيثيات قصة زرادشت.فكرة العمل الأساسية،حول العود الأبدي- أسمى صيغة إقرار لم يتم بلوغها قبل ذلك – تعود إلى تاريخ شهر غشت 1881 . انكبَّ نيتشه على ورقة وكتب الفقرة التالية:
'' على ارتفاع ستة آلاف قدم يلتقي الإنسان الزمان".عبَرْتُ خلال هذا اليوم الغابات المجاورة لبحيرة سيلفابلانا؛ غير بعيد عن قرية سورلي وقفت عند قدم صخرة هائلة يشبه شكلها هرما. لحظتها استلهمتُ الفكرة.حينما أعود إلى شهور معينة قبل هذا اليوم،فقد تمثَّلتُ خاصة مع الموسيقى،ملامح أولى عن الواقعة،عرفت أذواقي،تحوُّلا مباغتا،عميقا، حاسما.ربما لاينكشف زرادشت لديَّ سوى بالموسيقى؛حتما يفترض ''تجديدا''للسمع.قضيتُ ربيع سنة 1881،في كنف بلدة صغيرة تحيطها مياه جبلية،ليس بعيدا عن فانسونس،ومدينة ريكاورو،هناك اكتشفتُ مع بيتر غاست صديقي الذي أعتبره مايسترو،''مجدِّدا'' بدوره،على شاكلة طائر العنقاء الموسيقي الذي يحلِّق أمام أنظارنا في خضم ومضة ريش أكثر خِفَّة ولمعانا من ذي قبل''(13).
بالتأكيد،تواجدت ثنائيات أسطورية أخرى مثل سارتر/بوفوار أو إلزا تريولي/ لويس أراغون.لكن،هذه النماذج المثالية لاينبغي أن تنسينا،نموذج من يواصلون غاية اليوم مشروعا على مستوى علم الاجتماع، الفلسفة،الأدب الفن أو نضاليا.
هكذا،نسجت المحلِّلة النفسانية صحبة الكاتب منذ خمسين سنة علاقة عاطفية و شراكة استندت على استقلال صارم،روى معا تفاصيلها عبر صفحات كتابهما المشترك :''الزواج باعتباره أحد الفنون الجميلة''،الصادر خلال فصل الربيع.
قبل خمسين سنة،باشر فيليب سوليرز و جوليا كريستيفا سجالا لم يتوقَّف قط. سوليرز كاتب،كريستيفا مختصَّة في التحليل النفسي ومدافعة عن قضايا النسوية،ويمتعض الاثنان من كلمة ''ثنائي".رفقتهما بمثابة :''تكيُّف دائم،عاشق،شفَّاف،تغذيه حريتان مشتركتان و فريدتان''،مثلما كتبا في عملهما المشترك ''الزواج باعتباره أحد الفنون الجميلة ''،الصادر عن منشورات فايار.في المقابل،يحاولان يوميا تحريض ''شخصيتهما المبدعة''، دون التخلي عن ذلك.
س- ماذا عن لقاؤكما الأول؟