"من الضروري أن نكشف بلا كلَلٍ أمام الجماهير الكادحة لمختلف البلدان،لاسيما المجموعات المتخلِّفة،الخداع الذي تؤسِّسه القوى الامبريالية،بدعم من الطبقات التي تعيش حظوة داخل البلدان المضطَهَدَة،التي تتوخى الإيهام بكونها مستقلة سياسيا غير أنَّ حقيقة واقعها يؤكِّد تبعيتها الاقتصادية،المالية والعسكرية.يمكن استحضار نموذج واضح عن الخُدَع التي تعيشها الطبقة العمالية داخل البلدان الخاضعة عبر توافق مجهودات الامبريالية المتحالفة وكذا بورجوازية هذا البلد أو ذاك،أقصد تحديدا المسألة الصهيونية في فلسطين، وفق ذريعة خلق دولة إسرائيلية هناك،حيث عدد اليهود ضئيل،وجعلت الصهيونية العمال العرب السكان الأصليين،عرضة إلى الاستغلال الانجليزي''لينين(الأطروحة السادسة حول المسألة القومية والاستعمارية،المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية،1920).
"تماثل مهمة إسرائيل في الشرق الأوسط نفس ماتقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام''(تصريح ليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل قبل وفاته سنة 1969 ).
نتيجة حرب فيتنام،صارت القضية الفلسطينية تشغل طليعة المشهد الدولي. مثَّلت لحظة اتخاذ الشعب الفلسطيني قرار حمل السلاح كي يحدِّد إراديا طبيعة مصيره،ثم تحرير وطنه من الاحتلال الصهيوني،موعد يوم مشهود،قصد إماطة اللثام عن واحدة من أكبر مظاهر الظلم التي عرفها التاريخ،والانكشاف حسب صورته الحقيقية أمام أنظار جماهير واسعة من الرأي العام الدولي.
لم تعرف أيّ قضية استعمارية طمسا مثلما حدث لفلسطين،فقد أدركت الصهيونية خلال فترة طويلة،كيفية المناورة قصد تعتيم الحقيقة وخداع وعي ملايين الأفراد في العالم، حدّ جعل أذهانهم غير مكترثة بتراجيدية الشعب الفلسطيني،الذي سُلِبَت أرضه،وجُرِّدَ من ممتلكاته،ثم اختزاله إلى مجرَّد''شعب لاجئ''يعيش تحت كنف''الصدقات الدولية''.
طيلة مدَّة،أدرك القادة الصهاينة بدهاء سبل اللَّعب على التناقضات بين الدول العربية،وكذا التناقضات الداخلية لهذه الأخيرة،وجوانب ضعفها،وأخطائها،لصالح نفوذ الامبريالية التي تضطهدهم،بناء دائما على هدف استراتيجي يسعى إلى توطيد الدولة الإسرائيلية انطلاقا من الأرض الفلسطينية،بعد قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947،فاقترفت بذلك أفظع خطأ في تاريخها.
حاليا تغيَّرت أشياء كثيرة.صارت المقاومة الفلسطينية تجسيدا و تعبيرا عن الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني،وحقِّه في استعادة أرضه المستلبة،ثم تأكيد إرادته لخوض معركة تحرير وطنية حتى آخر رمق،غاية تحقيقه تطلعاته الوطنية.
يتبدَّى بوضوح أكثر من أيِّ وقت مضى،الوجود المجحف للدولة الإسرائيلية،ليس فقط جراء تطور المقاومة الفلسطينية،لكن أيضا نتيجة تمدُّد الاستيطان الصهيوني نحو مناطق عربية أخرى منذ عدوان يونيو 1967،في إطار بلورة الحلم الاستعماري الصهيوني بخصوص''الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتدُّ من النيل إلى الفرات''.
تشكِّل جوهريا الإشكالية الفلسطينية،قضية تحرير وطني،وأضحت جزءا لايتجزأ من نزاع شامل يتوخى تصفية حركة التحرير العالمية ضمن صراعها مع الامبريالية والاستعمار.يستحيل على كل خدعة صهيونية،أو ادِّعاء ديماغوجي لبعض القوى الرجعية العربية،إخفاء هذه الحقيقة الحاسمة.تعتبر حركة التحرير الفلسطينية،الأولى التي أكَّدت ثانية المبدأ وبكيفية متواصلة،كما دفعت مناضليها نحو استلهام مرجعيات هذا الفكر.
أعيد التَّذكير بمقطع نصِّي تضمَّنه كتاب التَّحليل النفسي للنار :''يضمر الإنسان إرادة تعقُّلية حقيقية.نستخفُّ بالحاجة إلى الفهم مثلما تصوَّرته وفعلت حياله البراغماتية ومعها البرجسونية،بالاعتماد مطلقا على مبدأ الفعَّالية.لذلك،أقترح تصنيفا تحت اسم عقدة بروميثيوس مختلف الميول التي تدفعنا كي نعرف ضمن مستوى آبائنا،وأكثر منهم،ثم عند ذات مستوى أساتذتنا،بل وأكثر منهم''.
تضاف غالبا إشارة التمرُّد إلى مختلف الإشارات التي أضفيت على أسطورة بروميثيوس،بحيث نتحسَّس راهنية العقدة.نحتفظ فقط من أسطورة بروميثيوس غواية التمرّد.بناء عليه،تمتلك العقدة واقعية جليَّة.لكن ليس مستعصيا العثور على أثر ضمن أقدم الأساطير.سأشير إلى بعضها،حسب أسلوب علماء الإثنولوجيا(6)المحايد طوعيا.
مثلا،السَّرد المسهب لصاحبه جيمس فريزر،بين صفحات كتابه''أسطورة أصل النار''في بولينيزيا (ص 78)،بحيث نرى أبا يتجنَّب إخبار ابنه عن مكان وكيفية طهوه الطعام.يحذَر الأب من ابنه''المفعم بالسخرية والعاشق للهزل''.يدفع الفضول الطفل كي يسرق النار.
سرد مشحون بالوقائع،يرتدُّ إلى سجالات لانهائية.حينما سُرِقَت النار من القدامى، ينبغي إظهار مزيد من التمرُّد نحو الأب الذي يأمر ابنه كي :"لايحمل النار معه؛غير أنَّه مرة أخرى يفشل الفكر المتوازِن للأكبر سنّا أمام شيطنة الأصغر سنّا".
تنطوي كل سرقة،وعصيان على إحالة إلى بروميثيوس،فقد أضاف جيمس فريزر على نحو بديهي(ص 81) :''هناك شيء في أسطورة تونغا الفظَّة،يذكِّرنا ببروميثيوس الإغريق الكلاسيكيين''.
تقديم : دبَّجَ كارل ماركس خمسين صفحة حول إشكالية تحرُّر اليهود،للإجابة على أطروحات برونو باور أحد أساتذته القدامى الذي درَّسه اللاهوت في برلين خلال سنوات(1836-1840).باور لاهوتي بروتستاني،انكبَّ طويلا على دراسة حياة المسيح،لكنه طُرد من كرسي الأستاذية نتيجة انتقاداته الجرِّيئة سنة 1841،فأصدر بعد ذلك دراسات عدَّة لاذعة،أبرزها في هذا السياق اهتمامه ب''الإشكالية اليهودية''.
يلتمس اليهود الألمان التحرُّر.فمالمقصود بذلك؟التحرُّر المدني،السياسي.أجابهم برونو باور(1) :لايوجد شخص متحرِّر سياسيا في ألمانيا.بدورنا نحن الألمان لسنا أحرارا.كيف بوسعنا تحريركم؟أنتم اليهود أنانيون،تلتمسون لصالحكم،تحرُّرا خاصا،لأنكم يهود.يجدر بكم العمل،انطلاقا من صفتكم كألمان،بهدف تحقيق التحرُّر السياسي لألمانيا،ثم الاستناد إلى خاصيتكم البشرية،من أجل تحرير الإنسان،وضرورة الإحساس بالمجال الخاص لاضطهادكم وإذلالكم،ليس باعتباره استثناء عن القاعدة،لكن بالأحرى مايؤكِّدها.
إما يدعو اليهود إلى مماثلتهم بالمواطنين المسيحيين؟إذا اعترفوا بدولة مسيحية تستند على القانون،فإنهم يقرُّون حينها بنظام الاستعباد عموما.فلماذا تثير عبوديتهم الخاصة استياءهم،بينما ترضيهم العبودية في صيغتها العامة؟لماذا تهتم ألمانيا بتحرير اليهودي،إذا لم يهتم الأخير بتحرير ألمانيا ؟
لاتعرف الدولة المسيحية سوى امتيازات.يمتلك اليهودي في ذاته امتياز أن يكون يهوديا.وضعية أتاحت له حقوقا غير متاحة للمسيحيين.فلماذا يطلب بحقوق ليست له، ومن حقِّ المسيحيين؟
حين التماس انعتاقهم من الدولة المسيحية،يؤكِّدون ضرورة التخلِّي عن انحيازها الديني.لكن هل يتخلى اليهودي بدوره،عن تعصُّبه الديني؟بالتالي،هل من حقه مطالبة الآخر بالتنازل عن دينه؟
لايمكن للدولة المسيحية،بناء على ماهيتها،تحرير اليهودي.أيضا،يضيف برونو باور،لايمكن لليهودي الانعتاق في خضمِّ ماهيته.طالما تبقى الدولة مسيحية وبقدر بقاء اليهودي يهوديا،يكون الاثنان معا غير قادرين سوى قليلا،كي يمنح أحدهما التحرُّر،ثم يتلقاه الثاني.
بخصوص اليهود،ستظلُّ الدولة المسيحية متمسِّكة بوضعية دولة مسيحية. يلزمها،بطريقة تمييزية،السَّماح لليهودي كي ينفصل عن باقي المواطنين؛غير أنَّ مثل هذا الوضع سيغدو عبئا على هذا اليهودي نتيجة تأثير اضطهاد أوساط أخرى،خصوصا حينما يجد اليهودي نفسه في تعارض ديني مع الديانة السائدة.بدوره،فاليهودي غير ممكن بالنسبة إليه،الاكتفاء بوضعية حيال الدولة تشير إلى يهوديته،بمعنى شخصا غريبا :هكذا،يطرح مقابل القومية الحقيقية،قوميته الخرافية،ثم قانونه الوهمي ضد القانون معتقدا امتلاكه حق الانفصال عن باقي البشرية؛مبدئيا،لايشارك قط في حركة التاريخ ويترقَّب بلهفة مستقبلا مغايرا تماما لمستقبل الإنسانية مادام يعتبر نفسه عضوا منتميا إلى الشعب اليهودي والأخير بمثابة شعب مختار.
إذن،بناء على أيِّ أساس،ينشد اليهود التحرُّر؟تبعا لدينهم؟يمثل هذا الدين العدوُّ اللدود لدين الدولة.أو لأنَّهم مواطنون؟ينعدم وجود مواطنين داخل ألمانيا.أم لأنَّكم بشر؟لستم بشرا،بل ولا الفئة التي وُجِّه إليها النداء.
أضفى برونو باور على إشكالية الانعتاق اليهودي وضعا جديدا،بعد انتقاده الوضعيات والحلول القديمة لهذه الإشكالية.يتساءل عن طبيعة اليهودي المقصود بالتحرُّر،وكذا طبيعة الدولة المسيحية التي يجدر بها التحرّر؟يطرح نقدا للدين اليهودي،ويقارب التعارض الديني بين اليهودية والمسيحية،ثم يشرح لنا ماهية الدولة المسيحية،بخطاب جريء،واضح الفكر،عميق ثم وفق لغة دقيقة قدر صلابتها وفعاليتها.
كيف إذن عالج برونو باور الإشكالية اليهودية؟ما النتيجة؟صياغة السؤال وتسويته. انتقاد المسألة اليهودية بمثابة جواب عليها.هاهو الملخَّص :
يلزم بداية تحرير أنفسنا،قبل التفكير في تحرير الآخرين.
يتجلى الشَّكل الأكثر صلابة للتعارض بين اليهودي والمسيحي،في التعارض الديني.كيف السبيل إلى تسوية هذا التعارض؟بجعله مستحيلا.كيف نجعل مستحيلا تعارضا دينيا؟بإلغاء الدين.عندما يكتفي اليهودي والمسيحي في النظر إلى ديانتيهما،باعتبارها مجرَّد مستويات مختلفة ضمن تطوُّر العقل الإنساني،''جلود الثعابين''وقد سلبها الثعبان المسمى إنسانا،لن يتعارضا حينئذ دينيا،لكن في إطار علاقة محض نقدية،علمية،إنسانية.يجسِّد العلم وحدتهما.والحال،أنَّ العلم نفسه يقدِّم حلاًّ للتعارضات العلمية.
حين تشكُّل نشاط نفسي بكيفية منتظمة ويتطور حسب وتيرة متقدمة،سيبدو أنَّه يتخذ دلالة عمل فني،وكذا جمال إنساني.عندما نلامس هذا الرنين المعرفي وفق جمالية نفسية،ويضاعف التطلُّع النفسي نحو معرفة ذلك تسارع المعرفة،حينها يرتبط تمدُّد بروميثيوسية معينة باكتساب المعارف.
معارف بين طيَّات أعماقنا تأتّت لنا من الآخرين،والكتب،تتسامى بنا الآن أبعد من أنفسنا وفوق الطبيعة المشتركة.نمط سلطة متعجرفة قد أمدَّت مجتهد الفكر بحيوية معينة .
أمكن تعدُّد وجوه بروميثيوس المتأتِّية من ماض الأساطير وكذا الثقافات،الترسُّخ دواخلنا قصد تشجيع نفسية تقنية على تجاوز ذاتها.بمجرَّد أن يقدِّم لنا علماء الآثار خاصية جديدة عن ملامح بروميثيوس حتى نتبيَّن نشاطا تجميليا.
عموما،كي تتِّسم تلك الوجوه الكبيرة داخلنا بفاعلية نفسية،يلزم اختبارها مثل محاولات- إغراءات بشكل أفضل- قصد تجاوز طبيعتنا الخاصة.توخِّي اختبار الإنساني، أكثر من الإنساني.سنرى بعد ذلك،قدرة ملامح عدَّة للمظهر الفرعي على إثارة مكامن ظلت جاثمة داخل خيالنا نتيجة التحفُّظ المفرط للإنسان المثقف.آنيا،لانحتفظ من البروميثيوسية الفعلية سوى مابوسعه إعطائنا اندفاعا صوب وجود أكثر من الوجود.
غير أنَّه،كي نحيا سموّا وجوديا،يلزم الإبقاء حيال انطلاقته على صفاء الوعي.ويبدو خلال كل مجهود للثقافة،تحوُّلنا إلى بروميثيوس نفسه.الماضي بمثابة صلصال بين أنامل الحالمين.
يلزمني القيام بفعل معين،لقد تحقَّق المأمول إبَّان مادرستُه سابقا.مع ذلك،لازال كل شيء يستدعي الاشتغال باستمرار،أوجِّه النِّداء أولا إلى نفسي.إذا استطعتُ فقط جعل البروميثيوسية المتناثرة،ضمن إطار مسار صيرورة واقعية تذهب من مناسبة ثقافية نحو أخرى !غير أنها،لن تشكِّل مهمَّة كتاب يعهد إلى الصور بغية المضيِّ قدما.
تندرج مختلف الوثائق التي أطرحُها ضمن جدلية الخيال و الاختزال.سأقدِّم أولا وثائق اختزلت الكائن البروميثيوسي إلى إفراط.مثلا،الأسطورة التي تُرْوى بإفراط إنساني، وتُدَرَّس بشكل مألوف،مما يفضي إلى اختزال أوَّلي يقف أمام إفراط التمدُّد الشعري.
عكس ذلك،سأركِّز على أمثلة حيث نزوع التسامي كي يغدو مطلقا،مثلما أوضحتها في مقدمة كتاب''شاعرية المكان''(5).بالتالي،أنا على يقين بكوني تجاوزت حدود وقائع قصد الولوج حقا وجهة سيادة الشعري.إذا تمكَّنتُ من تحقيق وصل عميق بين كتلة التسامي،سأشكِّلُ حينها شعرية بروميثيوس.