تقديم : هي دراسة ذات نفس نقديّ للغاية وتبصّر معاصر جدا،لازالت تحتفظ بدلالتها المعاصرة في خضمّ استمرار القمع الإسرائيلي للمقاومة الفلسطينية،أنجزها إدوارد سعيد خريف سنة 1993،ضمن سياق توقيع اتّفاقيات أوسلو،وصدرت شهر أكتوبر بين صفحات المجلة الانكليزية ''لندن ريفيو أوف بوكس ''.
حاليا وقد تراجع اندفاع الحماسة قليلا،يمكننا إعادة تقييم الاتّفاق الإسرائيلي مع منظمّة التّحرير الفلسطينية وفق مقتضى تفكير سليم.تحاول هذه القراءة تبيان العيوب التي تشوب هذا الاتفاق،غير المتوازن كثيرا بالنسبة لأغلب الفلسطينيين،مثلما افترض ذلك كثيرون منذ البداية.
ابتذال استعراض حفل التّوقيع وسط حديقة البيت الأبيض،المشهد المهين لياسر عرفات أثناء شكره الجميع بهدف حرمان أغلبية شعبه من حقوقه،ثمّ الظّهور السّخيف للرئيس الأمريكي بيل كلينتون مثل إمبراطور روماني في القرن العشرين ماسكا بمنكبي تابعيْن ضمن غاية التّهدئة والإذعان :تفاصيل شغلت ظرفية عابرة مقارنة مع المستويات اللامعقولة التي انطوى عليها الإذعان الفلسطيني.
إذن،بوسعنا قبل كلّ شيء،نعت الاتّفاق بتسميته الحقيقية : وسيلة لإخضاع الفلسطينيين،أو فرساي فلسطينية.مايجعله أكثر فظاعة،أنَّه خلال خمسة عشر سنة الأخيرة،كان بوسع منظمّة التّحرير الفلسطينية التّفاوض على تسوية أفضل من القيام بتعديل على''خطة آلون''، والتمسّك بعدم تقديم تنازلات أكثر من طرف واحد إلى إسرائيل.
بحكم مبرّرات يعرفها المسؤولون تماما،فقد رفضوا سابقا مختلف الاقتراحات.يمكنني في هذا الإطار تقديم مثال أعرفه شخصيا :نهاية سنوات السبعينات،التمس مني سيروس فانس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سابقا كي أحاول إقناع ياسر عرفات بأن يقبل القرار242،مع تحفّظ (قبلت به واشنطن)أضافته منظمة التّحرير الفلسطينية يلحّ على الحقوق الوطنية للشّعب الفلسطينيّ وتقرير مصيره.أخبرني فانس بأنّ أمريكا ستعترف فورا بمنظمّة التّحرير الفلسطينية وفرض إجراء مفاوضات بينها وإسرائيل. لكنّ عرفات رفض العرض قطعيّا،بجانب مقترحات مماثلة.
أفرزت الآلة الصّهيونية التّوتاليتارية الهمجية على امتداد تاريخها،زمرة سياسيين وعسكريين متطرِّفين للغاية،بل إنَّ منظومتها الإيديولوجية بصدد تقليص دائم ومستمِرٍّ لمجال أنصار العلمانية والدولة الحديثة وقيم التمدّن والتّعايش،مقابل توسُّع وتوطُّد قاعدة التطرُّف العقائدي؛لاسيما اللاّهوتي المؤمن بالعنف،فقد استلهم أغلبهم النّصوص التوراتية،الدَّاعية إلى ترسيخ دولة إسرائيلية''نقيَّة''تماما من شوائب باقي الأجناس والعقائد الأخرى غير اليهودية،يسكنها فقط شعب مختار ومميّز دون العالمين بوعد إلهي حتميّ.
يضمر أصحاب هذه النّظرة الأصولية جملة وتفصيلا،استعدادا منقطع النّظير بغية إحراق العالم بأكمله والإتيان على نهاية الجميع،في سبيل تحقيق وتجسيد المشروع ''الإلهي''،كما الحال طبعا بالنسبة لجلِّ متطرِّفي الديانات الأخرى.
دافيد بن غوريون،غولدا مائير، موشي ديان، مناحيم بيغن، إسحاق شامير،إسحاق رابين، شيمون بيريز، أرييل شارون..مرورا بليفي أشكول،إيغال آلون،عُتاة الجيل العقائدي الأوّل للحركة الصّهيونية،الذين استماتوا بكل الوسائل من أجل إقامة وطن لشعب اليهود حربا و سِلما،قوّة و حيلة،جبرا و اختيارا..،استندوا فقط في سبيل هدفهم الكبير على مرجعية قومية عتيدة،وحسّ وطني حقيقي حسب تصوُّرهم طبعا،وإرادة فولاذية،وذكاء استراتجي بعيد المدى،قياسا لمحيط عربي،غنيّ على جميع المستويات المادية والبشرية،لكنه ظلّ مفتقرا رسميا لمرجعية شاملة،أو إرادة بخصوص الحاضر،أو استراتجية تؤسّس لمرتكزات المستقبل.
عموما،حين التطرُّق إلى إشكالية هذا الموضوع،والانتقال آليا نحو إعادة الحديث عن اللّحظات المفصلية لتشكُّل متواليات الدولة العبرية منذ النّكبة،يبرز التّمييز الأساسي بين جيل الآباء المؤسِّسِين،فريق الصقور الذي أرست عناصره فعليا اللّبنات واختبر رموزه بكيفية شخصية وعلى أرض الواقع عسكريا،سياسيا،مخابراتيا، إيديولوجيا،حيثيات الصّراع التاريخي مع الفلسطينيين والعرب. بينما،تمثِّل حقبة وصول بنيامين نتنياهو إلى سدَّة الحكم يوم 18يونيو 1996،نهاية سياق تلك الحقبة وبداية تبلور توجُّهات جيل جديد لايختلف حقيقة عن سابقه تعصُّبا ودموية وحقدا،بل فقط خاصية الانتماء إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية،واختبار هول المعارك على أرض الواقع؛مثلما جرى الأمر مع الجيل المؤسّس:
*بن غوريون(1886-1973) :''لو كنت زعيمًا عربيًا لن أوقّع اتّفاقًا مع إسرائيل أبدا. إنّه أمر طبيعي: لقد أخذنا بلدهم. صحيح أنّ الله وعدنا به ولكن في ماذا يمكن أن يهمّهم ذلك؟ ربُّنا ليس ربُّهم. كانت هناك معاداة للسامية، والنازيون، وهتلر، وأوشفيتز، ولكن في ماذا يمكن أن يعنيهم ذلك؟ هم لا يرون إلا شيئًا واحدًا فقط: هو أنّنا جئنا وأخذنا بلدهم. فلماذا يقبلون هذا الأمر؟''.
ولد في مدينة بلونسك البولندية.اعتُبر لدى الإسرائيليين،بمثابة الرّجل المناسب في الوقت المناسب،لأنّه زعيمهم التّاريخي الأول،الذي تمكّن من تثبيت أولى لبنات كيانهم.
هاجر عام 1906،نحو فلسطين.شارك في العمل المسلّح،عندما تعاونت عصابته المسلّحة المعروفة بتسمية الهاغاناه مع الإرغون التي تزعّم مناحيم بيغن عملياتها الإرهابية.
حين الإعلان عن قيام دولة إسرائيل،يوم 14 مايو1948،وصار بن غوريون رئيسا للوزراء وكذا وزيرا للدفاع،أصدر قرارا دعا إلى حلِّ جميع التّنظيمات المسلّحة،في أفق تأسيس جيش وطني.
لاحظنا خلال هذا النصف الثاني من القرن العشرين انبعاث انفجار حقيقي ل''الإشكاليات''القومية والتباين الدائم على مستوى تعدُّدها وكذا طبيعتها،على الأقل مظهريا،مما يجعلنا ننقاد خلف اعتقاد مفاده عجز الماركسية عن استيعاب تلك القضايا.
تجلَّى التصور سلفا عند إيديولوجيي البورجوازية وكذا مفكِّرين،استلهموا الماركسية،لكنهم غير مرتبطين بالممارسة الثورية.يقود قصور للنظرية من هذا القبيل حتى ضمن صفوف عدَّة أحزاب تدعي الاشتراكية العلمية،نحو التجريبية،والمقاربات التبسيطية السريعة،وكذا إهمال ''تكامل الواقعة''.
مع ذلك،سيكون جحودا في حقِّ الماركسية حين افتراض عجزها عن تضمين الظواهر الحالية المركَّبة ضمن إطار تفسير نظري،وعدم السعي صوب استخلاص خطط عمل من أجل الممارسة.
وطن عربي ثم شعب يهودي،إشكالية الأمريكي الأسود وكذا الزنوجة،إيرلندا الشمالية واستقلال بروتاني،انطلاقا من تنوُّع وكذا تناقضات هذه القضايا يمكن بل يجب تطوير نظرية ماركسية حول الوطن قصد الإجابة عن الحركة التاريخية للإنسانية.
سأطرح بهذا الصدد بعض الإشارات فقط:
*المنهجية :
في الوقت الذي يختزل فيه البعض الماركسية إلى مجرَّد نزعة علموية (لوي ألتوسير)،وكذا موجة إنسانية(مكسيم رودنسون)،تبدو ضرورة التأكيد على مرجعية بعض النصوص المنهجية لكارل ماركس(مقدمة عامة لانتقاد الاقتصاد السياسي)ثم تطوراتها ضمن الدراسات الفلسفية للقادة الثوريين الذين واصلوا ذلك،وكذا التعمق فيها من طرف الفلاسفة الماركسيين المعاصرين الآتية أسماؤهم:
سانشيز فاسكيز (1)،إرنست بلوخ (2)،لوسيان غولدمان(3)،أنور عبد المالك(4)،ثم أساسا كارل كاوتسكي(5).
حينما بدأ يعمُّ فوق سطوح المنازل،انتشار اللاقط الهوائي أو البارابول،أواسط التسعينات،وقد كانت أثمنتها آنذاك ليست في المتناول القريب،بل احتاج أغلب المهتمِّين إلى اقتنائها بالتقسيط.جرى إبَّانها تحوُّل اجتماعي مهمٌّ للغاية،أثَّر نوعيا على مقوِّمات البنيات السوسيو- ثقافية القائمة طويلا،مثلما يحدث فعليا نتيجة كل المستجدَّات النوعية سواء كانت فكرة أو شيئا ماديا.
إذن،على غرار الانقلابات البنيوية،لم تعد أحوال الناس،بعد تبلور ثقافة البارابول،مثلما سادت قبل ذلك.
بهذا الخصوص،أذكر صديقا بادر حينها دون سابق تحضير يذكر،إلى خطبة فتاة كيفما اتّفق والزواج بها،ثم إسراعه بإحضارها إلى بيت والديه و أختيه؛واحدة مطلَّقة وأخرى ولجت عتبة سن ''العنوسة''حسب التحديد العامي المتداول،كي يتقاسم الجميع الجحر الصغير.عندما استفسرته عن السبب الذي دفعه دفعا نحو هذه المجازفة المفاجئة،أجابني على الفور :
-"إنها لعنة البارابول ياصديقي،ومفعوله السحري على البلاد والعباد".
أبانت ملامحي استغرابا،لطبيعة ردِّه الغريب،فاستفاض شارحا :
-''لم أعد قادرا على مقاومة غريزتي الملحَّة،وأنا أتابع مساء باندهاش الفضائيات؛ لاسيما تلك المستفِزَّتين.الأولى،تهتم بالمواعدة الغرامية صحبة نساء من فصيلة غير المعهودة في حياتنا اليومية،بحيث تطل على امتداد اليوم نسوة شقراوات كأنَّهن قادمات من عالم ثان؛أشهى من العسل،يضعن رقم هواتفهن بكيفية تصحبها أساليب تغنُّج لذيذ.الثانية،خاصة بتقديم برامج تداريب الرَّشاقة،يفصح معها الجسم عن أرخبيلات تنحدر من الاستيتيقا الإغريقية تُكتشف للمرة الأولى بطريقة ساحرة.لذلك،أسرعت إلى الزواج''.