تقديم :أجرى هذا الحوار مع غسان كنفاني،كاتب سويسري متخصِّص في أدب كنفاني،قبل أسابيع من اغتيال صاحب''رجال في الشمس'' يوم 8يوليو 1972،بالتالي تندرج مضامينه ضمن الوثائق التّاريخية الأساسية قصد الإحاطة ببعض جوانب تراث كنفاني.
س-هل بوسعكَ غسان كنفاني أن تحدّثنا عن تجربتكَ الشّخصية؟
ج-أظنّ بأنّ تاريخي يعكس وسطا فلسطينيا تقليديا جدا.غادرتُ فلسطين في سنّ الحادية عشر وأنحدر من أسرة تنتمي إلى طبقة متوسطة.كان أبي محاميا ودرستُ في مدرسة فرنسية تبشيرية.فجأة،تَفَكَّكَتْ أوصال عائلتنا المنحدرة من الطبقة الوسطى ثم تحوَّلنا إلى لاجئين،فورا توقَّف أبي عن العمل نتيجة أصوله المجتمعية العميقة.عندما غادرنا فلسطين،واصل أبي العمل لكن بلا معنى،فقد أرغمه الوضع على ترك طبقته المجتمعية والانحدار صوب أخرى أقلّ مكانة،مسألة ليست هيِّنة.فيما يخصّني،بدأت الاشتغال منذ الطفولة والمراهقة قصد تلبية حاجيات الأسرة،وأكملتُ دراساتي بوسائلي الذّاتية بفضل مهنة لاتستدعي تأهيلا أكاديميا عاليا،أقصد مُعَلِّما داخل إحدى حجرات مدارس القرية.كانت بداية منطقية،لأنّها وضعية أتاحت لي إمكانية مواصلة دراساتي في السلك الثانوي.بعدها التحقتُ بجامعة دمشق،شعبة الأدب العربي،طيلة ثلاث سنوات،لكنّي طُرِدتُ لأسباب سياسية وهاجرتُ إلى الكويت حيث مكثت عشر سنوات،بدأت خلالها القراءة والكتابة.أمّا بخصوص مساري السِّياسي فقد انطلق سنة 1952،وأنا في عمر الرابعة عشر أو الخامسة عشر.خلال السنة نفسها،أو الموالية 1953،التقيتُ في دمشق صدفة للمرّة الأولى الدكتور جورج حبش.كنت أشتغل مدقّقا للاختبارات داخل مطبعة،لاأذكر تحديدا من عرّفني به،غير أنّ أواصر علاقتنا تبلورت منذ تلك اللحظة.التحقتُ فورا بصفوف الحركة القومية العربية وحينها انطلقت فعليا حياتي السياسية.خلال فترة تواجدي في الكويت،أظهرت فاعلية سياسية داخل صفوف تلك الحركة،التي تمثِّلها حاليا أقليّة مهمّة داخل الحكومة الكويتية.سنة 1967، تلقّيتُ اقتراحا بالانضمام إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،الفصيل الفلسطيني لحركة القوميين العرب.سنة 1969،انتميتُ إلى هيئة تحرير مجلة''الهدف"حيث أواصل الاشتغال.
س- هل بدأتَ الكتابة عقب دراساتكَ للأدب العربي؟
ج- لا،أعتقد بأنّ اهتمامي بالأدب العربي بدأ قبل هذه المرحلة.أحسّ بكونه جاء حصيلة تركيب نفسي،إن كانت ذاكرتي جيّدة.قبل الرّحيل عن فلسطين،درستُ في مدرسة فرنسية تبشيرية،مثلما أشرتُ سابقا.بالتالي،لم أمتلك لغة عربية رغم أنّي عربيّ ،وضع خلق لديّ عدّة مشاكل،وسخرية أصدقائي نتيجة عدم تمكّني من اللغة العربية.لم أختبر هذا الأمر حينما كنت في فلسطين،بحكم وضعي الاجتماعي.لكن عندما غادرت،ومعرفتي بأصدقاء جدد انتموا إلى طبقة اجتماعية أخرى لاحظوا من الوهلة الأولى ضعف مستوى عربيتي وتوظيفي تعابير غربية خلال أحاديثي،ممّا دفعني قصد التخلّص من المعضلة التركيز على اللغة العربية.أستعيد واقعة تعرُّضي لكسر على مستوى القدم نتيجة حادثة سير،سنة 1954 إن لم تخني الذاكرة،فأرغِمْتُ على المكوث طريح الفراش طيلة ستّة أشهر.شكّلت الحادثة فرصة لدراسة العربية بكيفية فعلية.
س-يمكن الاستشهاد حسب اعتقادي بأمثلة عديدة عن تاريخ شخصيات ''أضاعت''لغتها ثمّ سعت إلى استرجاعها ثانية.هل تتصوّر بأنّها عملية تؤدّي إلى تطوّر الشخصية سياسيا؟
ج-لاأعرف،قد يكون المنحى كذلك.فيما يخصّني،أضحيتُ مسيّسا بكيفية مختلفة. انتميتُ مبكرا جدا إلى عالم السياسة خلال فترة حياة المخيّمات بحيث عشتُ في تماسٍّ مباشر مع الفلسطينيين و مشاكلهم من خلال بالتالي اختبرتُ حقبة طفولتي هذا المناخ الحزين و الوجداني.لم يكن صعبا في غضون ذلك اكتشاف الجذور السياسية للسياق الذي يحيط بي.عندما شرعتُ في التّدريس،واجهتُ صعوبات كبيرة مع أطفال المخيّم،ينتابني الغضب عندما أرى طفلا نائما أثناء الحصّة،فيما بعد اكتشفتُ ببساطة علّة ذلك : يشتغل هؤلاء الأطفال ليلا،يبيعون الحلوى أو العلكة وأشياء من هذا القبيل داخل قاعات السينما والأزقّة.طبعا،يأتون إلى الفصل مرهقين.معطيات وضعية تهتدي بالشخص فورا نحو أصل المشكلة.حينها اكتشفتُ بوضوح أنّ منام الطّفل ليس استخفافا بي أو امتعاضه من التعلّم،ولابكرامتي كمدرِّس،بل مجرّد انعكاس لقضية سياسية.
س-إذن ساهمت تجربتكَ في التّدريس على تطوير وعيكَ المجتمعي والسِّياسي؟
ج-نعم،أذكر حدوث هذا الأمر فورا ذات يوم.كما تعلم،يدرّس معلِّمو المدرسة الابتدائية مختلف المواد،بما فيها الرّسم،الحساب،الانجليزية،العربية ودروس أخرى.كنتُ بصدد محاولة تعليم الأطفال كيفية رسم فاكهتي تفّاحة وموز حسب البرنامج المقترح من طرف الحكومة السورية،مادامت الضرورة تقتضي الامتثال للمنهاج الدراسي.خلال تلك اللحظة،وأنا أتوخَّى رسم الصّورتين على السبُّورة بشكل أفضل قدر المستطاع،لكنّي أحسستُ بشعور الاستلاب وعدم الانتماء؛وأتذكّر إلحاح شعور إبّان تلك الفترة يلزمني بضرورة القيام بشيء معين،فقد أدركتُ حتى قبل تأمُّل وجوه الأطفال الجالسين خلفي،أنّهم لم يكتشفوا قط الفاكهتين المقصودتين،لذلك تمثّل آخر اهتماماتهم،بحيث تنعدم أيّ علاقة بين هؤلاء الأطفال والصّورتين.تحديدا،العلاقة متوتّرة بين مشاعرهم وتلك الرسوم،وليست على مايرام.جسّدت معطيات اللحظة منعرجا محوريا،وأستعيد تماما تلك اللحظة الخاصة من بين جلِّ وقائع حياتي.هكذا،بادرتُ إلى محو السبّورة ثم طلبتُ في المقابل من الأطفال أن يرسموا مخيّما.بعد مرور أيام،حضر المفتِّش إلى المدرسة،ثمّ كتب تقريرا مفاده انزياحي عن إطار البرنامج المحدّد من طرف الحكومة،تأويل يعني بأنّي مدرِّس فاشل.قادتني مباشرة إمكانية الدّفاع عن نفسي نحو القضية الفلسطينية.تراكم خطوات صغيرة من هذا القبيل يدعو الأفراد كي يتّخذوا قرارات تطبع كل حياتهم.
س-تعليقا على هذه الإشارة،أعتقد بأنّه حين انخراطك في الفنِّ،باعتبارك اشتراكيا في كل الأحوال،انطلاقا من موضوع رسم الفاكهتين،حاولتَ إعادة ربط الفنِّ مباشرة بالمجالات الاجتماعية،السياسية والاقتصادية.لكن مايتعلّق بكتاباتكَ،هل ترتبط بحقيقتكَ ووضعيتكَ الحالية،أو تأتي من رافد إرث أدبيّ؟
تقديم :أجرت صحيفة لوموند الفرنسية هذا الحوار مع الشاعر محمود درويش،عقب فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني يوم 25يناير 2006،بين طيَّات سياق تاريخي تميَّز بصعود تنظيمات حركات الإسلام السياسي…
س- هل يندرج بروز نجم حماس على الساحة الفلسطينية ضمن أجواء مناخ عام يشهد طفرة التيار الإسلامي على مستوى الفضاء العربي–الإسلامي؟
ج-فعلا هي مسألة بديهية :ليس بوسع فلسطين أن تظلّ جزيرة ضمن محيط يختبر صعود الإسلام السياسي.إذا أجريت انتخابات حرَّة في العالم العربي-الإسلامي،سيحقِّق الإسلاميون ببساطة انتصارا في كل مكان! إنَّه عالم يعيش تحت إحساس عميق بالظُّلم، ويتحمَّل الغرب مسؤولية ذلك،مادام جوابه يأتي وفق صيغة تطرُّف إمبريالي يعضِّد الإحساس بالجور.فضاء من هذا القبيل،يجعلنا أمام هويات مجروحة.
س-ماطبيعة هذا الجرح؟
ج-يجد العرب والمسلمون أنفسهم،في مواجهة استبداد أمريكي كونيٍّ بجانب ديكتاتورية طغاة محلِّيين،وضع يجعلهم عاجزين عن تحديد الوجهة.أيضا،يقارنون بؤسهم، بانتشار ثراء تكشف عنه مختلف الشاشات،يجعلهم يحسون بأنَّهم خارج سياق التاريخ. نتيجة ذلك :الارتداد عن الثوابت التاريخية،وتشكُّل وضعية عالقة تعريفيا في الماضي.جروح تتعفَّن ثمّ تضيع المقاييس.لقد فشلت تجارب القومية،العالم الثالث،الاشتراكية والشيوعية.بل حتى سيادة القانون تراجعت،مادام القانون الدولي ينعدم دوره في منطقتهم.منذ فترة طويلة جدا،تراوغ إسرائيل هذا القانون دون أثر يذكر لأيَّ عقاب.
س-بوسعهم اختيار طريق الديمقراطية ؟
تقديم : إدمون عمران المالح كاتب روائيّ،كتب''المجرى الثَّابت''(1980)،''أيلان أو ليلة الحكي''،(1983)''ألف عام بيوم واحد''(1986)،''عودة أبو الحكي''(1990)،أبو النُّور(1995).صدر العملان الأوَّلان على التَّوالي ضمن منشورات''ماسبيرو''وكذا ''لاديكوفرت''،بينما تكفَّلت دار النشر ''الفكر المتوحِّش ''بإخراج الأعمال الثلاثة الأخرى إلى الوجود.
أيضا،أنجز إدمون عمران المالح عدّة دراسات حول الفنِّ التشكيلي،والتَّصوير الفوتوغرافي،لاسيما حول الفنان أحمد الشرقاوي(منشورات شوف)،"جان جنيه،الأسير العاشق"،''العين واليد،أعمال خالي الغريب''(منشورات الفكر المتوحِّش).
تخيَّلوا معي شخصا واقفا يتأمَّل البحر،صامتا لايتحرَّك أو تقريبا كذلك أمام رمال ورياح الصويرة،يداعب بأصبع طرف شاربه ثم يقلِّص بلطف أنفه الذي يسند نظَّارتيه،عيناه نصف مغمضتين ومركَّزتين،تحاول الإحاطة بالمشهد مثلما نحاول الإمساك بطفل كي لايسقط،يشبه حجم قامته وشكله ولتر بنيامين،نفس ملامح الوجه،وشَعْره الأملس والأشيب،ثم ذات النَّظرة المتردِّدة بين الجدِّية والمرح.
إدمون عمران المالح،يهوديّ مغربيّ،ولد في أسفي عام 1917،يعتبر من الكتُّاب الذين لايفصلون مشاريعهم في الكتابة عن حيواتهم.لذلك،يمكن الإقرار تقريبا بأنَّ علاقة الرَّافدين أشبه بالعلاقة بين الشجرة والأرض.وضع يفسِّر حتما سبب رفضه بصورة منتظمة دعوات إجراء لقاءات إعلاميه معه،محيلا القرَّاء على مؤلَّفاته وكذا التوجُّس من الزمن عبر سبل الكتابة.كتابة تختبر تماما حركة عودة واسعة؛ليست عملية استعادة بل على العكس من ذلك،حركة مدٍّ وجزر تمحو كل تباين بين البداية والنهاية،وتغطِّي باستمرار ثم تكشف عن ثنائيتها،باكتشاف خسارتها…الشِّعاب المرجانية لحياة أمام أمواج الذَّاكرة.
يجرف التاريخ الصُّور التي تعبر هذه الذاكرة نحو وجهتي عالمين،يحرس على عدم الفصل بينها،والتباعد بينها،ثم خاصة عدم تجميدها.تختمر الكتابة بين طيات نواة هذا اللقاء وتأخذ الكلمات،شيئا فشيئا،مكان الصمت،ليس من أجل القطع معه،لكن قصد السماح،في إطار سياقه قصد الإصغاء وكذا تسليط الضوء على أصوات توارت.
إدموند عمران المالح حرٌّ،مثلما نصف بلدا بكونه قد تخلَّص من كل احتلال خارجي،لذلك يرفض قواعد وأغلال ثقافة راسخة.تمتلك عبارات نصوصه لها قوة وإيقاع تدحرج الأمواج بحيث تستدعي التيارات وتحشد بكيفية دائمة وصول أمواج أخرى ؛ثم تقفز سدود علامات التَّرقيم،إذا حتَّم السياق ذلك؛قصد إعادة إبداع خطوط التَّقاسم،تستبدل اللغة الفرنسية عالمها و كذا نبرتها،تستعرض دواخل اللغة العربية،تتجاوز الحدود،تنفتح على تعدُّد الأصوات،لقد اقتحمتها اللغة.ينطوي هذا الاختيار للكتابة على شجاعة ونَفَسٍ نعاينه ثانية،في إطار صيغة أخرى،من خلال مواقفه السياسية.
ميَّزت حقبتان مسار إدموند عمران المالح :حقبة أولى سرِّية وعسكرية داخل الحزب الشيوعي المغربي،ثم حقبة ثانية غداة التزامه،بالكتابة أساسا وابتعاده عن النشاط النِّضالي،لم يشكِّل هذا الانعطاف تنكُّرا،بل درجة إضافية على مستوى الحرية والوضوح.
لم يتغير قط،ارتباطه بالثقافة اليهودية-المغربية،والعربية بمعناها الواسع،وكذا رفضه لإسرائيل من خلال كونها قوة استعمارية رجعية وعنصرية،لكنها تبلورت تعبيريا منذئذ بكيفية أخرى.
إدموند عمران المالح،كاتب ملفِّق،منذ عمله الأول''المجرى الثابت''،غاية إصداره الأخير''أبو النور''،يعرض مايفوق الوصف،يضفي حياة على العالم الذي أنقذته ذاكرته من الغرق،عالم يتلاشى لاستحضار منزل فارغ انبعث ثانية في اتصال ب''ثلاث نخلات من فوق حائط أحمر''،تنتصب إحداها ضد تزييف التاريخ،وتنمحي أخرى قصد منح المكان إلى الليل.
قِلَّة هم الأشخاص،داخل العالم العربي،الذين أمكنهم الحفاظ بكثير من الصرامة والاستمرارية ضمن أفق مطالبهم بل أدَّى بعضهم ثمن ذلك بعزلة كبيرة.
تمثِّل شهادة إدموند عمران المالح،من وجهة نظر أدبية وكذا وجهة نظر الذاكرة،مساهمة وحمولة ذات قيمة نفيسة.ويظل مؤثِّرا و مطمئِنّا حين رؤية الاحتضان وكذا التقدير الذي تحظى به كتاباته اليوم في المغرب.(دومنيك إده)
ريجيس دوبري مثقَّف يساري مشهور،فهو مفكِّر وصحفي وفيلسوف فرنسي معاصِر وأستاذ أكاديمي.شغل منصب أستاذ للفلسفة بجامعة هافانا في كوبا عامَ 1965، وفي تلك الفترة توطَّدت علاقته بتشي غيفارا،وسافَر إلى بوليفيا حيث انضمَّ إلى حركته الثورية. تولى مسؤولية عدد من المناصب السياسية؛فعُيِّن مستشارًا للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في الشئون الخارجية عامَ 1981،ومستشارًا فخريًّا في المحكمة الإدارية العليا الفرنسية في مجلس الدولة،كما أسَّس المعهدَ الأوروبي للدراسات الدينية في عام 2002، وأشرف على رئاسةَ المجلس العلمي للمدرسة الوطنية لعلوم المكتبات والمعلومات في باريس.
من أبرز أعماله:''حرب العصابات''، ''القوة الفكرية في فرنسا''،''الكاتب: نشأة السياسة''،''نقد العقل السياسي''،''المدارس العلمانية''،''النار المقدَّسة''،''على جِسر أفينيون"، ''الثورة التشيلية،"ثورة داخل الثورة"،"محاربو غيفارا"،سلطة المثقفين في فرنسا" ،"دروس في الميديولوجيا العامة"،"حياة وموت الصورة"،"النار المقدّسة"،"خطأ في الحساب"، "القرن الأخضر"…
*مارك هالتر :كاتب وناشط فرنسي،يهودي من أصل بولوني،ألَّف عدة روايات تاريخية تطرَّقت لتاريخ الشعب اليهودي،ترجِمت إلى عدَّة لغات منها الإنجليزية والبولندية والعبرية…
باسكال بونيفاس :يمكن التأكيد من خلال أعمالكما الأخيرة أنَّ ريجيس دوبري يجسِّد ''تفاؤل العقل''،بينما يلوِّح مارك هالتر ب''تفاؤل الإرادة''.مارأيكما في هذا التصنيف؟
ريجيس دوبري :فعلا،لاأملك طاقة وقوة الأمل التي يضمرها مارك هالتر.وجب القول ببساطة بأنِّي أفتقد لنفس الإيمان.بناء على ملاحظاتي يلزمني الإقرار بالمأزق الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط.
مارك هالتر :أتَّفق مع هذه الملاحظة.لكني أتموقع في إطار منظور تاريخي.أساس مأساة البشر عدم توافق مفهوم الزمان في التاريخ مع سلَّم زمان الحياة الإنسانية.تخلِّد إسرائيل الذكرى الستِّين لإعلانها الاستقلال.سنوات اختزلتها الكتب المدرسية في بعض الأسطر.مع ذلك بالنسبة للإنسان،تعكس ستُّون سنة حياة بأكملها.قوام مأساتنا نفاذ الصبر الذي يغذِّي التشاؤم.من جانبي،أعتقد بأنَّ ستِّين عاما فضاء زمني تاريخي مقتضب جدا،بالتالي،كل ماتطلَّعنا إليه بوسعه التبلور.
باسكال بونيفاس :ماالمقاربة التي يطرحها ريجيس دوبري بخصوص هذا التباين بين تأمُّلِ الراهن وكذا الاستعراض التاريخي؟هل تعتقد،مثلما أوحيت قليلا في كتابكَ،بأنه حاليا قد فات الأوان،وكذا تحقُّق خلال فترة ما،منعطف قصد توجيه التاريخ حسب دلالة معينة؟
ريجيس دوبري :فيما يتعلَّق بالدولة الفلسطينية،تظهر الوضعية الحالية عدم إمكانية إنشاء دولة.بالتأكيد ملاحظة يمكن مناقشتها،لكن القدرة على التخلُّص من أربعمائة ألف مستوطنة تشمل القدس الشرقية وكذا الضفة الغربية،أظنُّه سعيا يحتاج إلى مقتضيات كبيرة،يصعب تصوُّرها،وربما عنيفة جدا.لقد انتقل مسار المستوطنات من منطق الوجبة الخفيفة إلى الضمِّ بكل بساطة.أتأسَّف من درجة هوس إسرائيل بأمنها على المدى القصير،من ثمَّة غياب فرص اندماجها الفعلي في المنطقة.بناء عليه،يعتبر جواب رفض مشروع الملك عبد الله،الذي طرح مبدأ''السلام مقابل الأرض"،مدمِّرا للغاية.عدَّة أصدقاء يهود عبَّروا لي عن شعور مفاده أنَّ لاأحد سنة 1950 كان في مقدوره التجرُّؤ على الحلم بتسوية من هذا القبيل.اقتراح المشروع قدَّم بديلا فيما يظهر مناسبا لأمن إسرائيل.ألاحظ مزيدا من الارتداد الإسرائيلي نحو معقل وتتقلَّص أكثر فأكثر إمكانية تحديد نفسها كدولة داخل المنطقة.يلزم التاريخ أيضا السماح باستخلاص بعض العِبَرِ.مجازفا بإظهار تشاؤم أكبر،بوسعي استحضار مثال الدول الصليبية،التي استمر وجودها فقط خلال مائة سنة :لماذا اتَّسم بكونه عابرا جدا؟يعود ذلك إلى عدم سعيها الفعلي نحو استيعاب ثقافات المنطقة أو على الأقل التأقلم معها.وضعية الشرق الأوسط غير مطمئنة : الفلسطينيون منقسمون،وتبدو السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر مجرَّد طرفٍ تابع للغرب.
مارك هالتر :صحيح،لقد أضاعت إسرائيل فرصا.حتما يمكننا تفسير انطوائها ليس فقط بالبعد النفسي،بل أيضا استمرار الاعتراض على إسرائيل ،رغم قوة مشروع الملك عبد الله،من طرف مكوِّنات عدَّة في الشرق الأوسط.يصطدم دعاة إسرائيل إلى ''التطبيع''مع هذه وضعيتها الشاذة،أي دولة دائما تعيش اعتراضا،بالتالي تهديدا.يتغير رموز الرفض نحو وجود الدولة الإسرائيلية،صدام حسين سابقا،واليوم محمود أحمدي نجد،بينما يستمر التهديد.طبعا،يفضي التهديد بالاستئصال إلى الانطواء وكذا التحصُّن خلف وضعيات دفاعية. اجتمع داخل منزلي،للمرة الأولى،شيمون بيريز مع ياسر عرفات.كنت سعيدا،جراء الأمل الكبير الذي أحدثه هذا اللقاء.ظننت بأنَّنا قد أمسكنا أخيرا بفرصة العثور على تسوية نهائية،مع ذلك،أخفق المأمول.فعلا،هناك ضياع للفرص.لامس ريجيس دوبري نقطة أخرى، لاأتفق معها حقا.فكرة عجز إسرائيل عن الانتماء إلى المنطقة،ضمن حدود بلد مندمِجٍ. تمتلك إسرائيل شرعية تاريخية مهمَّة،تنعدم في خضمها إمكانية المقارنة مع المملكة المسيحية في القدس.لم يغادر اليهود أبدا تلك المنطقة،سوى خلال سيادة المسيحيين،وإخضاع اليهود للتفتيش في القدس واختفاء آخرين في الجليل.قبل قرنين،خلال زيارة الفيكونت دو شاتويريان إلى القدس،تحدَّث عن الشعب اليهودي باعتباره :''سيِّدا فعليا على تلك الأمكنة''.استمرت دائما مدينة القدس،منذ عهد الملك داود،مأهولة من طرف اليهود.اليهود شرقيون،وحتما صار بعض الشرقيين غربيين،مثلا ساكنة أبو ظبي،أو دبي،الذين أقاموا لديهم نسخة عن السوربون،ومتحفي اللوفر وغوغنهايم.تنمُّ هذه التحولات عن مناحي إيجابية بخصوص اندماج أفضل في عالم الغد.لكن مهما حدث،يعتبر الاسرائيليون جزءا من الشرق،مثلما يشهد على ذلك،تشابه حفلات الزفاف،الإسرائيلية والعربية.شخصيا ولدت في بولونيا،كان الناس ينظرون إلينا كمتوحِّشين،نتيجة تواصل منظومة سلوكاتنا كما لو أنَّنا نعيش في الشرق،مما ساهم خلال تلك الحقبة في كراهية اليهود من طرف البولونيين المسيحيين.نحن مشرقيون،بالتالي مفهوم الاندماج غير ملائم قصد وصف مقتضى يلزم على الإسرائيليين الرضوخ له.يلزمنا فقط تقاسم مابوسعه أن ينقدنا غدا :العلم، المعرفة، التاريخ، التقنية،وكذا عناصر أخرى تتيح إمكانية مواجهة تصحُّر هذه المنطقة