سادت باستمرار هواجسي الذاتية قضية فكرية،وتلحُّ على تركيزي دون توقُّف،أقصد تحديدا إشكالية التوفيق بين الترجمة والتأليف؟سواء من ناحية الاهتمام وكذا المساحة الزمنية اليومية،ثم خريطة التوازن ''الكمِّي''على مستوى عناوين الإصدارات بين التأليف الشخصي أو حصيلة منجز الترجمة.
هل يبدو الإشكال مشروعا؟ربما،ليس كذلك لدى مشتغلين آخرين ضمن نفس المضمار؟وقد لاتتجلى خيوطه أمام أنظارهم بنفس المبنى والمعنى،أو أيضا لم يشغلهم بناء على ذات الزخم،غاية التعبير عنه موضوعيا وإبراز حيثياته على طاولة النقاش.
شخصيا،نظرت إلى هذه الموازنة بحسٍّ طفولي ساذج،بحيث لم أتجرد تماما عن فورية الإطار المادي للمعادلات الحسابية،وقد أردت لعناوين أعمالي الظهور أمام القارئ من الوهلة الأولى،متعادلة قدر المستطاع حسب أبعاد رؤية بانورامية،هيكليا وتصميميا بين عناوين النصوص الشخصية وكذا المترجَمة.
قد تضمر طريقة الإفصاح عن رؤيتي تلك،تطلُّعا فعليا ضمنيا كي تحضر عبر عناوين سيرتي نصوص التأليف النظري والسردي أكثر من الترجمة،مما يمنحني إحساسا خاصا باستئناس حميمي يرتقي في نهاية المطاف نحو نوع من الأبوَّة الروحية الخالصة،مادام المفهوم العام للإبداع في صبغته الأكاديمية المتوافق عليها مؤسساتيا،يستند بالدرجة الأولى على الكتابة التأليفية،بينما تحيل الترجمة بشكل من الإشكال على ترف فكري للقراءة وانخراط إرادي في حوارات مع الآخر.
طبعا لتحقيق التوازن المنشود،ومن باب إعادة التوضيح والتأكيد،ليس قانونا موضوعيا يستدعي الامتثال الجبري،بل يظلُّ متروكا لقناعات واختيارات ورؤى ورغبات صاحب الموقف،ومستويات انضباطه الشخصي فيما يتعلق باختيارات أوراشه المقبلة،إذا تبنى إراديا وازع الاشتغال على جبهتي التأليف النظري والترجمة،وقد يتجه سعيه وجهة ميادين أخرى كالإبداع الروائي،الشعري،أو المسرحي حسب قدراته وطاقته وشغفه وتطورات مستوى كتابته ونزوعاته المزاجية.نفس جنس الإشكال،الذي تثيره بكيفية من الكيفيات،مسألة أن تكون شاعرا وناقدا للشعر أو فقط أحدهما؟إمكانية ترجمة الشعر من طرف غير الشعراء؟ثم سياقات توظيف لقب فيلسوف :أستاذ الفلسفة؟الباحث في المجال الفلسفي؟صاحب النظرية الفلسفية؟ صائغ المفاهيم النظرية؟إلخ.
بهدف تحقيق السعي الذي أتوخَّاه والمتمثِّل في إبراز الصور الأدبية ضمن راهنها،يمكن اعتبار صورة طائر العنقاء لم يُستحضر قط اسمه أكثر قيمة من قصيدة تعليمية.سأحاول تجميع بعض الأمثلة عن''طيور العنقاء الضمنية''التي توضِّح لنا بأنَّ طائر العنقاء بمثابة نموذج أولي عن خيال النار.
حدَّد جان أندري وولWahl عبر مقاطع قصيدة كتبها أولا بالانجليزية ثم ترجمها بنفسه إلى الفرنسية(22)،سمة فلسفية أساسية حول الطائر المدهش،''الطائر السعيد''،تتجلَّى في حضوره''دونما سبب''،وقد انتشلته تماما بهجة إيقاظ الكون.
لاأعرف هل أدرك جان وول،الذي يستشهد بهيرقليطس،توهُّج قصيدته في خضمِّ أسطورة طائر العنقاء.صورها جديدة للغاية تدفعني للإقرار بإعادة تحديث الأسطورة،إنَها أسطورة تولد من جديد بل خلال مرتين.أيّ سعادة تحظى بها القراءة حينما نعيش القصيدة من خلال لغتين،بالتالي تخيُّلها وتأمُّلها مرتين،ثم التحرُّر من تقليد أدبي متحجِّرٍ !
هاهي قصيدة : طائر السعادة
بفضلكَ،سعادتي متوازنة،
هكذا،دونما سبب
وسط هذا العالم العميق و الشاحب،
ليست مثل سعادة الصوفيين العقلانية،
لكن على منوال هيراقليطس الذي يضحك أو جوقة كوميدية وسط بروميثيوس،
دونما سبب،أنتَ سبب وجودكَ،
يثقلني ابتلاع زفرات،ثم رشيق نتيجة أشعَّة تجمَّعت،
أتأملكَ تحلِّق بقوة وتهتزُّ مع ارتفاع خفقان أجنحتكَ؛
ثم تخترق الزمان بشدوِ توقُّدكَ،وتلدغ الأبدية.
حاليا،أرهفُ السمع إلى صرختكَ الناشئة،
سعادة طائر !
يبحث جان وول،بين طيات تأويله لولادة قصيدته(23)،عن حصر أسماء فلاسفة كبار سابقين ألهموه فعليا طائر السعادة.لم يحدِّد اسما بعينه،لذلك أشار إلى كيركجارد،نيتشه بل وديكارت.أيضا،يتذكَّر صورا شعرية لويليام ووردزورث و وبيرسي شيلي…ثم تشعرنا السطور الأخيرة لحديثه،بأنَّ اندفاع الطائر السعيد بمثابة تجاوز للحزن الجذري،بحيث يستحضر كيركجارد وهيدغر.
باعتباري شخصا ينحدر من منطقة شامبانيا،أرى جان وول مَرِحا يبحث بلا جدوى ضمن حيثيات الجوانب الفكرية في ثقافته عن الحافز المبدع الذي يتأتَّى منه طائر السعادة.بالنسبة إليَّ،الجواب عن تساؤل جان وول بسيط للغاية :القصيدة بدورها مثل طائر يتقلَّب بين أحضان الأبدية الصادحة،قصيدة بلا سبب مباشر نفسي أو ثقافي،قصيدة تسمى طائر العنقاء.
يجسِّد الشرود الشعري للفيلسوف- الشاعر،حول طائر السعادة،انكشافا لنمط بدائي أولي.يعتبر،مثلما الشأن مع مختلف الأفعال المبدعة،مصدرا لكل شيء يحدث بلا سبب،غالبا بكيفية أولية،مخترقا بوثبة بؤس التاريخ النفسي الذي يشكِّل موضوع أبحاث الأخصائي والطبيب النفسي.يشبه الفعل الشعري فعلا أساسيا يتجاوز دفعة واحدة الصور المرتبطة بالواقع.يبتهج طائر السعادة لدى جان وول،إبَّان التحليق مثلما يتحدث مقطعان شعريان كبيران لويليام بليك استشهد بهما جان وول عند فقرة أخرى من كتابه(24) :
نتيجة تقدُّم الغرب وانتشار منظوماته ثم رواج مفاهيمه :''قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل،ويعقوب صروف،وفرح أنطون،ونقولا حداد،وسلامة موسى وولي الدين يكن،ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي،فصل الدين عن الدولة،والدين لله والوطن للجميع.والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى،وغالبيتهم من نصارى الشام،الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب،ولاينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة،وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير.فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوا إليه ورأوه ماثلا في تقدم الغرب الفعلي''(ص 35- 36).نفس التصوُّر،استند عليه مفكِّرون مسلمون،مثل قاسم أمين،علي عبد الرزاق، خالد محمد خالد، إسماعيل مظهر،زكي نجيب محمود،فؤاد زكريا.
في حين رفضت الحركات الإسلامية العلمانية،وأكَّدت تمسُّكها المطلق بالإسلام الذي يربط بين الدين والدنيا،لكن السؤال الملحّ :''كيف يمكن تحقيق أهداف الفريق العلماني، ماتصبو إليه مجتمعاتنا من حرية وتقدم،وفي الوقت نفسه كيف نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني،وهو تطبيق الشريعة الإسلامية،منعا للازدواجية بين الدنيا والدين،بين العمل والإيمان،بين الشريعة والعقيدة؟''(ص 36- 37).
أهم معركة تنتظر المترجِم،بحيث تحسم إيجابا أو سلبا خاتمة عمل اشتغل عليه طيلة فترة زمنية،تطول أو تقصر حسب حجم العمل ومستوى زخم بنيته الإبداعية وطبيعة العلاقة التي نسجها معه المترجِم،يختزلها الإحساس العارم والمظفَّر بمقروئية النص لحظة اكتماله،الذي لايوازيه على مستوى البهجة والانتشاء والمتعة سوى إتمام مشروع الترجمة،بتحقُّق انسيابية ملموسة على مستوى المعاني وتلاحق دلالات العبارات والبنيات التركيبية،دون عَقَبة كأداء حتى لاأقول عائق طفيف،تلكُّؤٍ لساني متعِبٍ،حُبْسَة خانقة،أو التباس سياقي يصيب القارئ بالدّوار والتِّيه،إلخ.
لكن،هل تبقى مجرد انطباعات استيهامية جراء تداعيات نفسية يختبرها المترجِم؛ بكيفية أو أخرى،قصد تحقيق إشباع الرضا عن الذات ومنجزها من خلال إبداع الترجمة،أم أن الأمر يتعلق فعلا بتجلٍّ موضوعي قابل للتبلور الحسي؟