ترجمات كارل ماركس : برونو باور والإشكالية اليهودية (2/3)
2025 - 06 - 21

يشكِّل حتما التحرُّر السياسي،تقدُّما كبيرا.صحيح،ليس بآخِرِ صيغة للتحرُّر الإنساني،لكنه يعتبر كذلك حسب نظام العالم الحالي.أقصد جيدا :التحرُّر الواقعيّ والفعليّ.

يتحرَّر الإنسان سياسيا من الدين،باستبعاده من قانون عام إلى حقٍّ شخصيٍّ.لم يعد قط فكرا للدولة أو الإنسان،مع أنَّه يسلك وفق كيفية خاصة ومحدودة وضمن دائرة شخصية، مسلك كائن مشترك،بكيفية جماعية مع بشر آخرين؛لقد أضحى فكرا للمجتمع البورجوازي،مجالا للأنانية،ثم حرب الجميع ضدَّ الجميع.انتقل تماما من ماهية للجماعة،إلى أخرى تقوم على التَّمييز.هكذا،استعاد وضعه الأصلي؛بحيث يجسِّد ابتعاد الإنسان عن الجماعة،وذاته وكذا باقي الأفراد.صار فقط تأكيدا مجرَّدا للعبث الشَّخصي،ونزوة فردية،ثم الاعتباطي.

مثلا التَّفتيت اللانهائي للدين في أمريكا الشمالية،أضفى عليه سلفا صيغة خارجية بخصوص مسألة شخصية كليّا. اخْتُزِلَ إلى دائرة الاهتمامات الشخصية واسْتُبْعِد عن الجماعة،وأخذ طبيعة ماهيته.لكن،لاينبغي الانخداع  فيما يتعلق بمستوى حدود التحرُّر السياسي.انقسام الإنسان بين العمومي والخاص،تحوُّل الدين بانتقاله من الدولة إلى المجتمع البورجوازي،مختلف ذلك ليس مرحلة،لكنه فعلا بمثابة استكمال لتحرّر سياسيٍّ،لم يلغ بتاتا التديُّن الفعلي للإنسان أو حاول ذلك.

ليس تقسيم الإنسان إلى يهودي ومواطن،بروتستاني ومواطن،إنسان متديِّن ومواطن، كذبا على النظام السياسي ولامحاولة تتوخى التملُّص من التحرُّر السياسي؛بل هو التحرّر السياسي نفسه،الطريقة السياسية للتحرّر من الدين.

طبعا،خلال حقب انبثاق الدولة السياسية بقوَّة من المجتمع البورجوازي،وتطلُّع الانعتاق الفردي الإنساني كي  يتحقَّق وفق صيغة انعتاق شخصي سياسي،بوسع الدولة ويلزمها العمل على إلغاء الدين،غاية اندثاره،لكن في إطار أقصى سعيها،التخلُّص من المِلْكية الفردية،بالمصادرة،من خلال الضريبة التصاعدية،ثم إلغاء الحياة عن طريق المقصلة.

إبَّان لحظات وعي الدولة بذاتها،ترنو الحياة السياسية صوب كبح شروطها الأوَّلية، المجتمع البورجوازي وعناصره،كي ترتقي نحو حياة عامة للإنسان حقيقية ومطلقة.غير أنها،لايمكنها بلوغ هذا الهدف سوى إذا وضعت نفسها في تناقض عنيف مع شروط وجودها الخاصة،بإعلان الثورة على الدولة الدائمة؛أيضا هل تنتهي بالضرورة المأساة السياسية من خلال ترميم الدين،المِلْكية الفردية،ومختلف عناصر المجتمع البورجوازي،مثلما تنتهي الحرب بالسَّلام.

أكثر من ذلك،ليست الدولة المسيحية النموذجية،أو المفترض بأنَّها مسيحية من تقرُّ  بالمسيحية أساسا لها،وديانة للدولة،وتتَّخذ بالتالي موقفا استثنائيا حيال الديانات الأخرى؛ لكنها بالأحرى الدولة الملحدة،الديمقراطية،التي تلحق الدين بباقي عناصر المجتمع البورجوازي.الدولة التي مازالت لاهوتية،وتجاهر دائما رسميا بالعقيدة المسيحية،ولم تجرؤ بعد كي تعلن على نفسها وفق نموذج علماني وإنساني،في خضمِّ حقيقتها كدولة،الأساس الإنساني حيث المسيحية بمثابة تعبيره المتعالي.الدولة المسمَّاة مسيحية،ببساطة دولة غير موجودة؛بالتالي،ليس المسيحية كديانة،بل تحديدا الخلفية الإنسانية للدين المسيحي الذي بوسعه التبلور في إطار إبداعات إنسانية حقا.

تعتبر الدولة المسمَّاة مسيحية،إلغاء مسيحيا للدولة،وليست قط تنفيذا سياسيا للمسيحية.الدولة،التي لازالت تعتنق المسيحية في صيغة دينية،لم تعد تجاهر بذلك من خلال إطار الدولة،مادامت تحتفظ للدين بوضع ديني.بعبارات أخرى،دولة من هذا القبيل ليست تجسيدا حقيقيا عن الخلفية الإنسانية للدين،لأنَّها موصولة دائما بالوهمي،وكذا الشكل المتخيَّل لهذه النواة الإنسانية.

الدولة المفترضة مسيحية،دولة غير كاملة،والديانة المسيحية بالنسبة إليها مجرَّد تكملة وكذا تقديس لهذا القصور.حتما يصير الدين وسيلة؛إنَّها دولة النَّفاق.هناك فرق كبير بين الواقعتين :إما تؤخذ الدولة المثالية بعين الاعتبار،نتيجة غياب ضمني لماهية الدولة العامة،فالدين ضمن شروطها؛أو تعلن الدولة غير النموذجية،الدين كأساس لها،نتيجة خلل ملازم لوجودها،بمعنى دولة غير سويَّة.بناء على هاته الحالة الأخيرة،يتحوَّل الدين إلى سياسة معيبة.فيما يتعلق بالحالة الأولى،يتجلَّى من خلال الدين قصور السياسة المثالية.تحتاج الدولة التي يفترض كونها مسيحية إلى الديانة المسيحية،حتى يتحقَّق اكتمالها كدولة.

الدولة الديمقراطية،الحقَّة،في غير حاجة إلى الدين قصد إظهار اكتمالها السياسي.يمكنها،عكس ذلك،تجاهل الدين،فبالنسبة إليها يتجلَّى المنحى الإنساني للدين بكيفية دنيوية.مقابل ذلك تماما،تستند الدولة التي تصف نفسها بالمسيحية،على موقف سياسي من الدين،ثم موقف ديني من السياسة.إذا انحدرت بالأشكال السياسية إلى واجهة فقط،فإنَّها تفعل نفس الأمر مع الدين.

مقالات نقدية الطفل وسياقات التحرُّش
2025 - 06 - 13

تركت الحافلة تطوي بتؤدة دابَّة شائخة تلك المنعرجات الجبلية الوعرة،رغم جاذبية مناظرها الطبيعية؛حين التوقُّف قليلا وإلقاء نظرة استجمام تأمُّلية.

أحسست برغبة شديدة في النُّعاس،على غير عادتي تماما،ثم غفوت قليلا.استسلمت حواسِّي وانطفأ توقُّدها.افتقد وعيي مايجري حولي.بالكاد أضحيت جثَّة هامدة،حتى اهتزَّ كياني وانبعثت من عدم،نتيجة وقع صوت جهوريّ مزعج.

فتحت عينايّ بصعوبة متثاقلة،فالنوم يسطو على بؤرتيهما.حاولت معرفة مصدر الصوت،إنَّهما راكبا المقعدين الإمامين،رجل متوسِّط العمر،وطفل في بداية عقده الثاني:

-''أوصيتكَ ياهذا غير مامرَّة،عدم السماح لأيِّ شخص غريب بتقبيلكَ''ماتْبوسُ مايْبوسْكْ''وإن على سبيل التحيَّة.قلت لك،اكتف فقط بالمصافحة أو مجرّد تفاعل شفويٍّ مع ابتسامة فاترة من باب التأدُّب !''. 

ارتفعت نبرة صوت الأب،فوضعية الطرفين تحيل كليّا على هذه الرَّابطة،بينما بدا الصغير منتبها لمضمون الخطاب،مع ذلك تنمُّ نظراته المترنِّحة عن تيهٍ وعدم استيعاب لمختلف دلالات الوصيَّة الملقاة.

حينما انتهى الرجل،أشاح الطفل بوجهه نحو النافذة،ثم غَيَّر وضعية جلسته إلى شبه استلقاء مفصحا عن رغبته في النوم.

استعادت الحافلة هدوءها السالف بعد الرَّجَّة المباغتة،جرَّاء احتجاج الأب المفترض على سلوك ابنه،ثم انفلات حمولة صوته عن مجاله الخاص.مثلما استعاد المسافرون خمولهم،فالوقت ظهيرة،والشمس عمودية،وهول المنعرجات المستندة على الموت مباشرة،أدخل العابرين عنوة بوتقة صمت خاشع.

ترجمات عبد اللطيف اللعبي : القصيدة الفلسطينية المعاصرة
2025 - 06 - 11

تجلَّت خلال سنوات الثلاثينات،من القرن العشرين،بين طيَّات الأدب العربي المعاصر،إرهاصات مشروع أدب فلسطيني خالص.

مع ذلك،لم تكن فلسطين قبل هذا التاريخ،أرضا جرداء على المستوى الشعري والأدبي.

استمرَّ تراث كبير للقصيدة الشعبية الشفوية،مثلما جرى في مناطق مختلفة من العالم العربي.قصيدة بلا معالم واضحة،ملحمية أو غنائية،عاطفية أو هجائية،دينية أو دنيوية،أحاطت بالمهامِّ واليوميات،الأفراح والأحزان،من خلال الإنساني وكذا الحكمة الشعبية.

أشكال تعبيرية أدبية أخرى (حكايات،أقوال مأثورة،ألغاز)تغذِّي الخيال، تستدعي التاريخ في بعده الأسطوري،تحيل على مبادئ أخلاق التعامل.

أيضا،وُجِدَ أدب مكتوب،دون أن تشغله نفس التزامات الأدب الشعبي نحو الأرض وكذا الحقائق الفلسطينية.

لم تسمح الحقيقة الجيو-سياسية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط(خلال فترة الحكم العثماني،أطلِقت تسمية أرض الشام على مجموع منطقة سوريا،فلسطين،لبنان) بتبيان تلك السِّمات الوطنية التي بوسعنا معاينتها اليوم.هكذا،اعتُبر مبدئيا عربيا،كل مثقَّف يكتب سواء في دمشق،القدس أو بيروت.

أن يولد أو يعيش داخل هذه المنطقة أو تلك من الإمبراطورية العثمانية،لايضفي على إنتاجه خاصية قومية معيَّنة.أما الحدود،التي تشكَّلت بعد ذلك ثم ''الشعوب''أو ''الأوطان''،فهي حصيلة و نتيجة تجزئة المنطقة بين مختلف القوى الاستعمارية.لذلك،بوسع عدَّة بلدان في منطقة الشرق الأوسط،غاية الوقت الحاضر،تبنِّيها اسم مثقَّف أو كاتب لم يكن يهتمّ قط خلال حياته،بانتماء من هذا القبيل.

تدريجيا،أرسى الاختراق الاستعماري،الذي أقام حدودا بين مختلف مكوِّنات نفس الجسم الاجتماعي والثقافي،وضعيات مختلفة،سياسيا،اقتصاديا،وثقافيا.سياق،اقتضى من المجموعات العربية،التي اختبرت هذه الوقائع الجديدة،اعتماد كل واحدة على نفسها قصد المحافظة على هويتها والعثور على سُبُلِ حريتها.

تبلور في غضون هذا التطور،وعي مختلف عن السائد طيلة قبضة الدولة العثمانية ذات المرجعية الاثنية-ثقافيا ودينيا.أقصد،ولادة وعي''قومي"،كظاهرة غير معلومة قبل ذلك، في الأرض العربية.

إذن،ليس صدفة تحديد سنوات الثلاثينات،باعتبارها حقبة زمنية شهدت انبثاق مشروع أدبي فلسطيني.إنَّها فترة المقاومة العربية الفلسطينية خلال الانتداب البريطاني،وكذا المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين،بين سنوات 1917 و1948،ومرحلتها الأكثر زخما تعود إلى سنوات الثلاثينات،حيث بلغ ذلك ذروته مع ثورة سنة 1936 العامة.

شهدت،هذه الفترة تحديدا،بروز الجيل الأول من الشعراء الروَّاد :إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود،عبد الكريم الكرمي.

يمكن تمييز قصيدة هذا الجيل بالملامح التالية :

*الامتثال الصارم لقواعد العروض والأشكال الراسخة للقصيدة العربية الكلاسيكية. بالتالي،استُبعد هاجس التجديد الجمالي؛

*حمولة إيديولوجية قوية ذات خاصية قومية.يتعلق الأمر بقصيدة أملتها بكيفية فورية مهام النضال الوطني.يضاف إلى ذلك،''التزام''الشاعر بقصيدته،ثم مباشرة،المعركة السياسية؛ 

*انتفاء كل عنصر ذي طبيعة ذاتية،بحيث تنازلت''أنا''هذه القصيدة التحريضية، لصالح"نحن"؛  

*تأثير جماهيري ملحوظ. جَسَّد شعراء هذا الجيل استمرارية لتقليد القصيدة الشعبية. كتبوا قصائدهم،ثم تداولتها بعد ذلك شفويا التجمُّعات والتظاهرات الشعبية.

بالنظر إلى هذه السِّمات،قد تبدو مجازفة جعل إنتاج هؤلاء الشعراء منتميا إلى القصيدة الفلسطينية المعاصرة.بيد أنه إذا كان صحيحا،عدم إمكانية تحديد راهنية هذه القصيدة عبر مستوى تجدُّد الأشكال وقطيعة جريئة تقريبا مع التراث،مع ذلك،يبقى التأويل ملموسا فيما يتعلق بمضمون هذه القصيدة وكذا الوعي الذي عبَّرت عنه و أذاعته.

بل يمكننا القول بأنَّ مكمن قوتها وأصالتها،الدور الذي  لعبته على مستويين :  

-الجانب التَّقليدي أو بالأحرى،المتَّصل بتراث طويل،جعل من الشاعر العربي منذ الفترة  الجاهلية،متحدِّثا باسم قبيلته(أو شعبه)،والملهِم الإيديولوجي،وحارس الذَّاكرة، والشخص المعتمد لإصدار الشَّتائم والهجاء،والضمير الحيّ.لقد أدَّى الشاعر الفلسطيني المنتمي إلى جيل الروَّاد،هذه الوظيفة التقليدية كمرشد وجامع،لكن ضمن سياق جديد :   

-بينما ارتكز الجانب المعاصر،نحو الارتقاء وجهة ذكاء العصر وكذا الحقيقة الواقعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني.مما أتاح إمكانية بلورة أولى لبنات عناصر وعي وطني.

مقالات نقدية الكفيف ولذَّة الكفوف
2025 - 05 - 18

بدأت تنتشر رويدا رويدا حكاية هذا الكفيف،بعد أن لاحظ ساكنة الحيِّ سلوكا مشينا،مارسه في حقِّ الآخرين أو بالأحرى الأخريات على امتداد حقبة زمنية،إلى أن صار متداولا تلوكه الألسن حسب سياقات ومقامات الحديث،بكثير من التفكُّه،بنفس مقدار سخطهم وعدم رضاهم،وصبِّ شتى اللَّعنات على رجل يعيش خريف العمر،يتعاطف معه الناس لعاهته المستديمة،فيسرعون إلى الاهتداء به وإرشاده نحو مقصده،بأسرع مما لو حاول فعل ذلك وحده؛وربما تعثَّر وسقط.

دأب طيلة الفترة السابقة عن انكشاف أمره،على مغادرة منزله صباحا؛غالبا بين الثامنة والثامنة ونصف،راغبا في الذهاب إلى المنطقة الأخرى من الحيِّ،المتواجدة عند ملتقى السُّبُل الرئيسة المفضية إلى مختلف دروب المدينة،بحيث يساعده دبيب الحركة وتقاطر حشود العابرين،على الصمود واقفا عند ركن رحب من الشارع والتسوُّل خلال ساعات،ثم العودة مساء إلى بيته الذي يؤويه وحيدا منذ فترة غير بعيدة بعد وفاة زوجته؛ولم ينجبا.

يترك منزله،يبدأ في نسج الخطى قليلا،ثم يشرع في مناداة العابرين :

-''ياأهل الله ! يامحسنين !من يأخذ بيدي ؟أسأل المولى أن لايحرمه من نعمة البصر والبصيرة معا''. يخفض صوته،كي يهمس بنبرة فاترة :

-''آه ! أيُّتها البصيرة ''.

يكاد صوته لايسمع،ويحرَّك شفتيه بكيفية لايلتقط مضمونها سوى من كان بمحاذاته، دون أن يشعر الكفيف بوجوده :

- ''أيُّها العميان،تتوهّمون ثقب عيونكم بصيرة،شتَّان مابين فقدان البصر ونعمة البصيرة !''

السيرة الذاتية
تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار