أكَّد دائما لزبنائه ومُجَالسيه،عبر أحاديثه المسترسَلة طيلة اليوم،بأنَّه بائع أعشاب راسخ،لايشقُّ له غبار،نهل من منبع الحرفة أباً عن خالٍ،من سلالة لأخرى داخل قبيلته وأهله،لذلك يحقُّ له شرعا شتم؛بل لعن المتطفِّلين على خيمياء الأعشاب،الذين ولجوا المجال خطأ،بالتالي لامجال كي يضع نفسه موضع مقارنة،لأنَّه صاحب علم وخبرة ودراية كافية بما يفعل،يلزم على رواده التحلي بالثقة التامة بخصوص مختلف الوصفات التي يقدِّمها،وظل ينعت ذاته بكونه طبيبا تقليديا،درس وتعلَّم مرجعيات متون المجال بين طيات مصادر خالصة استلهمها من أفواه فقهائه الأفاضل.
سرعان ماسطع اسمع العشَّاب داخل الحيِّ،أولا بقدرته الهائلة على حبك الكلام دون تلكُّؤ،ووصله بسياقات مقامية خلال حديثه تنمُّ عن ذكاء تواصلي مدهش،مما أتاح له في ظرف وجيز توسيع قاعدة ضيوفه لاسيما فئة الرجال،الذين قصدوه تباعا،مثلما يكشف بخيلاء،بهدف تحقيق مطلب أساسي يشكِّل أولوية الأولويات مقارنة مع باقي الحاجيات الأخرى،المقصود هنا تحديدا،ماتعرفه الأدبيات الشعبية بالفحولة الجنسية.
أخبره أغلبهم،حسب قوله دائما،بجملة أسرار و حكايا لم تختبر كنهها حقيقة سوى الحيطان الصمَّاء،وأنهم ولجوا عتبة الموت البطيء إذا لم ينقدهم بخلطته،على استعادة مناطقهم السفلى لتوهُّجها الشبابي،وفتوَّتها،ثم وصل حبل الودِّ ثانية مع زوجاتهم المتعبات.
ذاع صيت صاحبنا،بعد فترة قصيرة من تدشينه يوميات دكان أعشاب،فقد صادف حفل الافتتاح نجاحه في ترميم ثم استعادة هِمَّة أحد العابرين الذي أفرغ عليه هَمَّه،فأمدَّه مجانا بقارورة صغيرة احتوت على زيت مركَّزة جدا،فأوصاه بدهن الجهاز ذهابا وإيابا كي تستفيق عروقه وينهض من سباته،ثم ارتشاف جرعة صغيرة قبل كرنفال الجماع بفترة قصيرة،وحالما يسري المفعول بين ثنايا الشرايين،سيقدِمُ لامحالة على زوجته إقداما،وذلك ماحدث فعلا كما روى،فقد عاد ثانية كي يخبره بالنتيجة المذهلة إلى درجة أنَّ زوجته شرعت تقبِّل يديه بكيفية هستيرية في أوج الانتشاء،ووعده من باب الشكر والامتنان والدعاية،بتعميمه مضمون النتيجة بين صفوف أصدقائه ومعارفه.
فعلا،تحقَّق الوعد،فأضحى اسم العَشَّاب معلوما وجوده عند الساكنة،ليس فقط الرجال المعنيين بجدليات البرود والفحولة والعِنَّة،بل صارت تطرق بابه النسوة أيضا قصد استشارته في حيثيات الفراش ومايجري مجرى ذلك.
كان يتقن فنون اللغو،وقدرته على الإحاطة بحضور الآخر.بمجرد ولوج أحدهم عتبة دكانه،يقابله بابتسامة عريضة وترحيب مبالغ،ثم كأس شاي مقطَّر هيَّأه على إيقاع تحلُّل خيميائية أعشاب برِّية وبحرية؛حسب ادعاءاته دائما،كي تنطلق من هنا بعد رشفة أو رشفتين،عملية تنقية الجسم من العلل والأسقام التليدة،فيستعيد عافيته الجنسية حتى ولو كان صاحبه في أرذل العمر.
"من الضروري أن نكشف بلا كلَلٍ أمام الجماهير الكادحة لمختلف البلدان،لاسيما المجموعات المتخلِّفة،الخداع الذي تؤسِّسه القوى الامبريالية،بدعم من الطبقات التي تعيش حظوة داخل البلدان المضطَهَدَة،التي تتوخى الإيهام بكونها مستقلة سياسيا غير أنَّ حقيقة واقعها يؤكِّد تبعيتها الاقتصادية،المالية والعسكرية.يمكن استحضار نموذج واضح عن الخُدَع التي تعيشها الطبقة العمالية داخل البلدان الخاضعة عبر توافق مجهودات الامبريالية المتحالفة وكذا بورجوازية هذا البلد أو ذاك،أقصد تحديدا المسألة الصهيونية في فلسطين، وفق ذريعة خلق دولة إسرائيلية هناك،حيث عدد اليهود ضئيل،وجعلت الصهيونية العمال العرب السكان الأصليين،عرضة إلى الاستغلال الانجليزي''لينين(الأطروحة السادسة حول المسألة القومية والاستعمارية،المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية،1920).
"تماثل مهمة إسرائيل في الشرق الأوسط نفس ماتقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام''(تصريح ليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل قبل وفاته سنة 1969 ).
نتيجة حرب فيتنام،صارت القضية الفلسطينية تشغل طليعة المشهد الدولي. مثَّلت لحظة اتخاذ الشعب الفلسطيني قرار حمل السلاح كي يحدِّد إراديا طبيعة مصيره،ثم تحرير وطنه من الاحتلال الصهيوني،موعد يوم مشهود،قصد إماطة اللثام عن واحدة من أكبر مظاهر الظلم التي عرفها التاريخ،والانكشاف حسب صورته الحقيقية أمام أنظار جماهير واسعة من الرأي العام الدولي.
لم تعرف أيّ قضية استعمارية طمسا مثلما حدث لفلسطين،فقد أدركت الصهيونية خلال فترة طويلة،كيفية المناورة قصد تعتيم الحقيقة وخداع وعي ملايين الأفراد في العالم، حدّ جعل أذهانهم غير مكترثة بتراجيدية الشعب الفلسطيني،الذي سُلِبَت أرضه،وجُرِّدَ من ممتلكاته،ثم اختزاله إلى مجرَّد''شعب لاجئ''يعيش تحت كنف''الصدقات الدولية''.
طيلة مدَّة،أدرك القادة الصهاينة بدهاء سبل اللَّعب على التناقضات بين الدول العربية،وكذا التناقضات الداخلية لهذه الأخيرة،وجوانب ضعفها،وأخطائها،لصالح نفوذ الامبريالية التي تضطهدهم،بناء دائما على هدف استراتيجي يسعى إلى توطيد الدولة الإسرائيلية انطلاقا من الأرض الفلسطينية،بعد قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947،فاقترفت بذلك أفظع خطأ في تاريخها.
حاليا تغيَّرت أشياء كثيرة.صارت المقاومة الفلسطينية تجسيدا و تعبيرا عن الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني،وحقِّه في استعادة أرضه المستلبة،ثم تأكيد إرادته لخوض معركة تحرير وطنية حتى آخر رمق،غاية تحقيقه تطلعاته الوطنية.
يتبدَّى بوضوح أكثر من أيِّ وقت مضى،الوجود المجحف للدولة الإسرائيلية،ليس فقط جراء تطور المقاومة الفلسطينية،لكن أيضا نتيجة تمدُّد الاستيطان الصهيوني نحو مناطق عربية أخرى منذ عدوان يونيو 1967،في إطار بلورة الحلم الاستعماري الصهيوني بخصوص''الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتدُّ من النيل إلى الفرات''.
تشكِّل جوهريا الإشكالية الفلسطينية،قضية تحرير وطني،وأضحت جزءا لايتجزأ من نزاع شامل يتوخى تصفية حركة التحرير العالمية ضمن صراعها مع الامبريالية والاستعمار.يستحيل على كل خدعة صهيونية،أو ادِّعاء ديماغوجي لبعض القوى الرجعية العربية،إخفاء هذه الحقيقة الحاسمة.تعتبر حركة التحرير الفلسطينية،الأولى التي أكَّدت ثانية المبدأ وبكيفية متواصلة،كما دفعت مناضليها نحو استلهام مرجعيات هذا الفكر.
عند طرح سؤال إمكانية رصد الترجمة لدى جماعة بشرية معيَّنة،تتجلَّى حينها فورا شرارة التَّجاذب الجدلي بين الهاجس الفردي ثم الاشتغال الجماعي،أو بالأحرى التنظيم والهيكلة المؤسَّساتية:كيف يشتغل الحدَّان المتلازمان؟مستويات تكاملهما واختلافهما؟أين مكمن مفاصل حرية الفردي في إطار هذا الهاجس العام؟ما الذي يضيفه أحدهما للثاني؟هل بوسع الفرد أن يكون مذهِلا،دونما حاجة إلى تعضيد الموضوعي؟مثلما يلحُّ سؤال قدرات تطوير المجتمع لمنظومته بكيفية دؤوبة،ارتباطا بمكوِّن بشري منهكٍ ومشلولٍ ومعطَّلٍ، إلخ؟موقع كيان الفرد الواحد وانبثاق ممكناته الذاتية الخالصة،الأسطورية،من عدمه.
الترجمة واجهة معرفية صميمة،ضمن مرتكزات أخرى،لذلك عندما نسائل وضع الترجمة في الجغرافية العربية،نلامس حقيقة وأساسا الهاجس المعرفي ودرجات حضوره.يبدو،أنَّ الجواب على استفسار من هذا القبيل،في غير حاجة إلى أدنى مبرِّرات رقمية،وبراهين كمِّية،قصد إبراز الإيجابي أو السلبي،تكفي بهذا الخصوص مجرَّد معاينة مباشرة؛بإلقاء نظرة بانورامية،حتى يستشفَّ الملاحظُ حقيقة المشهد وفق تفاصيل البؤس الكبيرة.
إذن،الترجمة ابنة هذا الواقع اللا-تاريخي على جميع المستويات،إن استطاعت أصلا الارتقاء كي تغدو مؤسَّسة مُهَيْكَلة قانونيا ومعرفيا وإنتاجيا،بمعنى سلطة معنوية تمتلك بكيفية مستقلِّة تاريخا وحاضرا ومستقبلا،وتؤثَّر بفاعلية على مستوى تطور المجتمع وتغيير حصيلة أنساق رؤاه العامة من مرحلة إلى أخرى.
يسهل الإقرار من الوهلة الأولى،بأنَّ الترجمة لم تبلغ عندنا أفق المنظومة المؤسَّساتية،المحكومة بقانون وتطوُّر ذاتيين،في علاقة تفاعلية خلاَّقة مع السياق المجتمعي حسب قانون الجذب والتأثر والتأثير.إنَّها غاية الآن،تعكس في الغالب الأعم،ممارسات فردية ومبادرات شخصية،ينهض بأعبائها أفراد بعينهم،بناء على شغف خاص،ولم تترسَّخ بعد كمشروع مجتمعي بنَّاء،يمكنها وضع المجتمع برمته على سِكَّة منظور تاريخي وكوني. منحى،لازال فاترا،متعثِّرا،بطيئا،مترامية أشلاؤه بين رغبات أفراد يقومون بهذا العمل تحت وازع هواجس ذاتية غير محكومة عموما بنسق فكري ملهِمٍ،محفِّزٍ،سيشكِّل لامحالة نواة جاذبية أوراش عدَّة،تؤسس وتهيكل شتات الأعمال الفردية،المتناثرة هنا وهناك،قصد الانتقال بها وجهة مستوى المشروع المعرفي المجتمعي الذي يتوخى تحقيق نهضة شاملة،وطفرة تاريخية نوعية؛مثلما دأبت الترجمة على فعله دائما بين طيات مختلف الثقافات الإنسانية،فلا نهضة بدون ترجمات،والأخيرة بمثابة جسر لكل منظومة مدنية مجتمعية حقيقية،تضع باستمرار خططا استراتجية لسيرورة المجتمع،بتطويره آليات الترجمة بمفهومها اللغوي والدلالي ثم القيمي؛فالترجمة منظومة قيم تربوية وأخلاقية.
أعيد التَّذكير بمقطع نصِّي تضمَّنه كتاب التَّحليل النفسي للنار :''يضمر الإنسان إرادة تعقُّلية حقيقية.نستخفُّ بالحاجة إلى الفهم مثلما تصوَّرته وفعلت حياله البراغماتية ومعها البرجسونية،بالاعتماد مطلقا على مبدأ الفعَّالية.لذلك،أقترح تصنيفا تحت اسم عقدة بروميثيوس مختلف الميول التي تدفعنا كي نعرف ضمن مستوى آبائنا،وأكثر منهم،ثم عند ذات مستوى أساتذتنا،بل وأكثر منهم''.
تضاف غالبا إشارة التمرُّد إلى مختلف الإشارات التي أضفيت على أسطورة بروميثيوس،بحيث نتحسَّس راهنية العقدة.نحتفظ فقط من أسطورة بروميثيوس غواية التمرّد.بناء عليه،تمتلك العقدة واقعية جليَّة.لكن ليس مستعصيا العثور على أثر ضمن أقدم الأساطير.سأشير إلى بعضها،حسب أسلوب علماء الإثنولوجيا(6)المحايد طوعيا.
مثلا،السَّرد المسهب لصاحبه جيمس فريزر،بين صفحات كتابه''أسطورة أصل النار''في بولينيزيا (ص 78)،بحيث نرى أبا يتجنَّب إخبار ابنه عن مكان وكيفية طهوه الطعام.يحذَر الأب من ابنه''المفعم بالسخرية والعاشق للهزل''.يدفع الفضول الطفل كي يسرق النار.
سرد مشحون بالوقائع،يرتدُّ إلى سجالات لانهائية.حينما سُرِقَت النار من القدامى، ينبغي إظهار مزيد من التمرُّد نحو الأب الذي يأمر ابنه كي :"لايحمل النار معه؛غير أنَّه مرة أخرى يفشل الفكر المتوازِن للأكبر سنّا أمام شيطنة الأصغر سنّا".
تنطوي كل سرقة،وعصيان على إحالة إلى بروميثيوس،فقد أضاف جيمس فريزر على نحو بديهي(ص 81) :''هناك شيء في أسطورة تونغا الفظَّة،يذكِّرنا ببروميثيوس الإغريق الكلاسيكيين''.