يعتبر هذا الصنف من المتحرِّشين،الأكثر إنتاجا لمشاهد جنسية مختلسة ضمن مختلف السياقات؛كيفما تجلَّت،لذلك يندرج مدمنو الطَّوابير والتجمُّعات بحثا عن لذَّة عابرة،في طليعة النموذج البشري المقصود بإحالات من هذا القبيل.
هم أكثر جرأة.لايبالون.لايهتمُّون بوجود الآخر.ينقادون كلِّية؛أوَّلا وأخيرا،خلف النِّداء العاجل لنزواتهم الجنسية،الآن وهنا،والمتطرِّفون منهم لايفرِّقون بتاتا بين هويَّة الأطباق التي يصادفونها أمامهم.الأساسي كتلة لحمية جاثمة مكانيا،كي يسرع المتحرِّش إلى التّسَمُّر وراءها بغضِّ النَّظر عن كون الضحيَّة امرأة،طفلا،فتى،عجوزا شمطاء.
يقف جامدا كأنَّه ميِّت من عالم الأشباح،غير مدرك أو آبه بما يفعل.لكن،رغم مجازية موته تستمرُّ شعلة الحياة مشتعلة كليَّة عند مقدِّمة سرواله التي تشتغل بليونة الثعابين كي تجد في نهاية المطاف وضعا ملائما يسعف الاحتكاك المطلوب.
لم ينجز جاك ديريدا،دراسة متكاملة حول المسألة الفلسطينية أو الصِّراع الإسرائيلي-الفلسطيني.بل تواترت على امتداد صفحات كتاباته،أفكار انصبَّت على مأساة الفلسطينيين وكذا المتواليات السياسية للدولة الإسرائيلية.
لكن مؤلَّفاته المرتبطة بسياق حقبة خمس وعشرين سنة الأخيرة من حياته،ألحَّ اهتمامها على الانشغال بالفلسطينيين،بحيث أبدى ديريدا تضامنا حقيقيا نحوهم،وأظهر رغبة استثنائية بهدف مصاحبتهم مثلما تجلَّى ذلك واضحا من خلال كتاباته ومداخلاته بواسطة مختلف الأشكال والسجلاَّت.
نعاين في طليعة ذلك السجِلِّ العاطفي،وكذا التأثير الناجم عن هذه الواقعة أو تلك،ثم هذه الحلقة أو تلك ضمن حيثيات المأساة الفلسطينية.هكذا،كتب بين فقرات كتابه''رنين الجرس''،متحدِّثا عن جان جنيه :''لقد أخبرني البارحة عن تواجده في بيروت،صحبة الفلسطينيين في حالة حرب،معزولين ومحاصَرين''؛قبل إضافته:''أعرف بأنَّ مايثير اهتمامي،ارتبط دائما مكانه ب هناك،لكن كيف أظهر ذلك''.(1)
عندما خَصَّص،ديريدا انطلاقا من هذا العمل المنتمي إلى مشاريع كتاباته الأولى،حيِّزا كبيرا إلى القضية الفلسطينية بجانب الأسئلة المهمَّة التي تستدعيها،فقد ساهم بخصوص إضفاء الوضوح على القضية،وضرورة الإصغاء،إبّان لحظات افتقد الفلسطينيون لذلك كثيرا.
لاحظنا ضبابية المنظور نحو الفلسطينيين،ليس فقط عند الجمهور العريض الذي تعبث به وسائل الإعلام و تضلِّله،لكن أيضا لدى فلاسفة مثل ميشيل فوكو أو جان فرانسوا ليوتار،وضع يدعو أكثر للشَّفقة حينما يتعلق الأمر بعقول كبيرة انشغلت أحيانا،بذكرى ونتائج التراجيديات الجسيمة.
استحضر الكاتب جون ماكسويل كوتز المنحدر من جنوب أفريقيا في مقالاته الأدبية،التي تُرْجِمت إلى الفرنسية تحت عنوان :''من القراءة إلى الكتابة''،الشاعر بول سيلان الذي سافر للمرة الأولى إلى إسرائيل عام 1969 و''أبدى اندهاشا متهكِّما'' :''يوجد هنا كثير من اليهود،فقط اليهود دون ملجأ!''(2).
يمكننا طبعا التفكير في أنَّ صرخة من هذا النوع أملتها خاصة غيتوهات اليهود في أوروبا الشرقية وكذا المحرقة التي أدَّت إلى فَقْدِ ذويهم وكذا جزء كبير من طائفتهم،لكن بوسعنا الاستغراب حقا في الوقت ذاته بخصوص عدم انتباه الشاعر العميق إلى وجود الفلسطينيين الذين مَثَّلوا حسب مصادر البلدية الإسرائيلية نفسها،مايناهز ثلثي ساكنة مدينة القدس التي زارها.لكن عبارة''فقط اليهود''(التي يمكن ترجمتها أيضا ب"سوى اليهود'')تثير الاستغراب،وتتعارض في كل الأحوال،مثلما سنرى،مع الحياة التي توخَّاها ديريدا لليهود عامة،ثم دولة إسرائيل خاصة.
يشكِّل حتما التحرُّر السياسي،تقدُّما كبيرا.صحيح،ليس بآخِرِ صيغة للتحرُّر الإنساني،لكنه يعتبر كذلك حسب نظام العالم الحالي.أقصد جيدا :التحرُّر الواقعيّ والفعليّ.
يتحرَّر الإنسان سياسيا من الدين،باستبعاده من قانون عام إلى حقٍّ شخصيٍّ.لم يعد قط فكرا للدولة أو الإنسان،مع أنَّه يسلك وفق كيفية خاصة ومحدودة وضمن دائرة شخصية، مسلك كائن مشترك،بكيفية جماعية مع بشر آخرين؛لقد أضحى فكرا للمجتمع البورجوازي،مجالا للأنانية،ثم حرب الجميع ضدَّ الجميع.انتقل تماما من ماهية للجماعة،إلى أخرى تقوم على التَّمييز.هكذا،استعاد وضعه الأصلي؛بحيث يجسِّد ابتعاد الإنسان عن الجماعة،وذاته وكذا باقي الأفراد.صار فقط تأكيدا مجرَّدا للعبث الشَّخصي،ونزوة فردية،ثم الاعتباطي.
مثلا التَّفتيت اللانهائي للدين في أمريكا الشمالية،أضفى عليه سلفا صيغة خارجية بخصوص مسألة شخصية كليّا. اخْتُزِلَ إلى دائرة الاهتمامات الشخصية واسْتُبْعِد عن الجماعة،وأخذ طبيعة ماهيته.لكن،لاينبغي الانخداع فيما يتعلق بمستوى حدود التحرُّر السياسي.انقسام الإنسان بين العمومي والخاص،تحوُّل الدين بانتقاله من الدولة إلى المجتمع البورجوازي،مختلف ذلك ليس مرحلة،لكنه فعلا بمثابة استكمال لتحرّر سياسيٍّ،لم يلغ بتاتا التديُّن الفعلي للإنسان أو حاول ذلك.
ليس تقسيم الإنسان إلى يهودي ومواطن،بروتستاني ومواطن،إنسان متديِّن ومواطن، كذبا على النظام السياسي ولامحاولة تتوخى التملُّص من التحرُّر السياسي؛بل هو التحرّر السياسي نفسه،الطريقة السياسية للتحرّر من الدين.
طبعا،خلال حقب انبثاق الدولة السياسية بقوَّة من المجتمع البورجوازي،وتطلُّع الانعتاق الفردي الإنساني كي يتحقَّق وفق صيغة انعتاق شخصي سياسي،بوسع الدولة ويلزمها العمل على إلغاء الدين،غاية اندثاره،لكن في إطار أقصى سعيها،التخلُّص من المِلْكية الفردية،بالمصادرة،من خلال الضريبة التصاعدية،ثم إلغاء الحياة عن طريق المقصلة.
إبَّان لحظات وعي الدولة بذاتها،ترنو الحياة السياسية صوب كبح شروطها الأوَّلية، المجتمع البورجوازي وعناصره،كي ترتقي نحو حياة عامة للإنسان حقيقية ومطلقة.غير أنها،لايمكنها بلوغ هذا الهدف سوى إذا وضعت نفسها في تناقض عنيف مع شروط وجودها الخاصة،بإعلان الثورة على الدولة الدائمة؛أيضا هل تنتهي بالضرورة المأساة السياسية من خلال ترميم الدين،المِلْكية الفردية،ومختلف عناصر المجتمع البورجوازي،مثلما تنتهي الحرب بالسَّلام.
أكثر من ذلك،ليست الدولة المسيحية النموذجية،أو المفترض بأنَّها مسيحية من تقرُّ بالمسيحية أساسا لها،وديانة للدولة،وتتَّخذ بالتالي موقفا استثنائيا حيال الديانات الأخرى؛ لكنها بالأحرى الدولة الملحدة،الديمقراطية،التي تلحق الدين بباقي عناصر المجتمع البورجوازي.الدولة التي مازالت لاهوتية،وتجاهر دائما رسميا بالعقيدة المسيحية،ولم تجرؤ بعد كي تعلن على نفسها وفق نموذج علماني وإنساني،في خضمِّ حقيقتها كدولة،الأساس الإنساني حيث المسيحية بمثابة تعبيره المتعالي.الدولة المسمَّاة مسيحية،ببساطة دولة غير موجودة؛بالتالي،ليس المسيحية كديانة،بل تحديدا الخلفية الإنسانية للدين المسيحي الذي بوسعه التبلور في إطار إبداعات إنسانية حقا.
تعتبر الدولة المسمَّاة مسيحية،إلغاء مسيحيا للدولة،وليست قط تنفيذا سياسيا للمسيحية.الدولة،التي لازالت تعتنق المسيحية في صيغة دينية،لم تعد تجاهر بذلك من خلال إطار الدولة،مادامت تحتفظ للدين بوضع ديني.بعبارات أخرى،دولة من هذا القبيل ليست تجسيدا حقيقيا عن الخلفية الإنسانية للدين،لأنَّها موصولة دائما بالوهمي،وكذا الشكل المتخيَّل لهذه النواة الإنسانية.
الدولة المفترضة مسيحية،دولة غير كاملة،والديانة المسيحية بالنسبة إليها مجرَّد تكملة وكذا تقديس لهذا القصور.حتما يصير الدين وسيلة؛إنَّها دولة النَّفاق.هناك فرق كبير بين الواقعتين :إما تؤخذ الدولة المثالية بعين الاعتبار،نتيجة غياب ضمني لماهية الدولة العامة،فالدين ضمن شروطها؛أو تعلن الدولة غير النموذجية،الدين كأساس لها،نتيجة خلل ملازم لوجودها،بمعنى دولة غير سويَّة.بناء على هاته الحالة الأخيرة،يتحوَّل الدين إلى سياسة معيبة.فيما يتعلق بالحالة الأولى،يتجلَّى من خلال الدين قصور السياسة المثالية.تحتاج الدولة التي يفترض كونها مسيحية إلى الديانة المسيحية،حتى يتحقَّق اكتمالها كدولة.
الدولة الديمقراطية،الحقَّة،في غير حاجة إلى الدين قصد إظهار اكتمالها السياسي.يمكنها،عكس ذلك،تجاهل الدين،فبالنسبة إليها يتجلَّى المنحى الإنساني للدين بكيفية دنيوية.مقابل ذلك تماما،تستند الدولة التي تصف نفسها بالمسيحية،على موقف سياسي من الدين،ثم موقف ديني من السياسة.إذا انحدرت بالأشكال السياسية إلى واجهة فقط،فإنَّها تفعل نفس الأمر مع الدين.
تركت الحافلة تطوي بتؤدة دابَّة شائخة تلك المنعرجات الجبلية الوعرة،رغم جاذبية مناظرها الطبيعية؛حين التوقُّف قليلا وإلقاء نظرة استجمام تأمُّلية.
أحسست برغبة شديدة في النُّعاس،على غير عادتي تماما،ثم غفوت قليلا.استسلمت حواسِّي وانطفأ توقُّدها.افتقد وعيي مايجري حولي.بالكاد أضحيت جثَّة هامدة،حتى اهتزَّ كياني وانبعثت من عدم،نتيجة وقع صوت جهوريّ مزعج.
فتحت عينايّ بصعوبة متثاقلة،فالنوم يسطو على بؤرتيهما.حاولت معرفة مصدر الصوت،إنَّهما راكبا المقعدين الإمامين،رجل متوسِّط العمر،وطفل في بداية عقده الثاني:
-''أوصيتكَ ياهذا غير مامرَّة،عدم السماح لأيِّ شخص غريب بتقبيلكَ''ماتْبوسُ مايْبوسْكْ''وإن على سبيل التحيَّة.قلت لك،اكتف فقط بالمصافحة أو مجرّد تفاعل شفويٍّ مع ابتسامة فاترة من باب التأدُّب !''.
ارتفعت نبرة صوت الأب،فوضعية الطرفين تحيل كليّا على هذه الرَّابطة،بينما بدا الصغير منتبها لمضمون الخطاب،مع ذلك تنمُّ نظراته المترنِّحة عن تيهٍ وعدم استيعاب لمختلف دلالات الوصيَّة الملقاة.
حينما انتهى الرجل،أشاح الطفل بوجهه نحو النافذة،ثم غَيَّر وضعية جلسته إلى شبه استلقاء مفصحا عن رغبته في النوم.
استعادت الحافلة هدوءها السالف بعد الرَّجَّة المباغتة،جرَّاء احتجاج الأب المفترض على سلوك ابنه،ثم انفلات حمولة صوته عن مجاله الخاص.مثلما استعاد المسافرون خمولهم،فالوقت ظهيرة،والشمس عمودية،وهول المنعرجات المستندة على الموت مباشرة،أدخل العابرين عنوة بوتقة صمت خاشع.