مقالات نقدية أبو الأسود الدؤلي
2025 - 04 - 27

عندما نستحضر كوكبة الطَّليعة التراثية لعلماء اللغة والنحو العربيين،يبرز من الوهلة الأولى ضمن هؤلاء جميعا،اسم أبي الأسود الدؤلي رغم أنَّه لم ينعم بنفس الشهرة التي حظيت بها أسماء أخرى،كما تميَّزت المصادر التاريخية حول معطيات حياته وفكره بقلَّتها،شحِّ معطياتها،تضارب رواياتها،تباين معلوماتها بكيفية مفارقة؛قياسا لباقي روَّاد تراث العربية الأوائل.

أنجز سيبويه خلال القرن الثاني الهجري أبواب وهياكل عمله الضخم''الكتاب''،مما أثار بداية نقاش لازال مستمرا غاية الآن فيما يتعلق بالجذور المعرفية تاريخيا لتشكُّلِ لبنات النحو العربي،ثم تبلور موقفين بخصوص محدِّدات التأويل. 

أعاد فريق جذور هذا العلم الجديد إلى أصول يونانية وسريانية وهندية،بينما تمسَّكت جماعة ثانية بأصوله الإسلامية العربية،تحديدا لحظة انصهار مشروع مشترك بين الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي،بل هناك،من يمتدُّ بهذه الحلقة ضمن سلسلة النحويين العرب،أبعد من أبي الأسود الدؤلي غاية إشارات''نصر بن عاصم''،''عبد الرحمن بن هرمز''،''يحيى بن يعمر"،قصد تقويض آثار التأثيرات الأجنبية،بمعنى آخر لم يكن بوسع سيبويه وقد قاربت المسافة الزمنية الفاصلة عن مرحلة الدؤلي ثمانين سنة تقريبا،إنجاز تنظير بذلك العمق المنطقي والدِّقة البنيوية والشمولية المنهجية،دون وجود إرث لغوي مؤسَّس  بشكل من الأشكال،و هاجس معرفي متواتر انتقل باللغة العربية إلى مرحلة نضج البناء والهيكلة النظرية وصياغة الخلاصات.

مقالات نقدية مقبرة اختلاس الملذَّات
2025 - 04 - 20

شغلت هذه المقبرة حيِّزا كبيرا من فضاء الحيِّ،فقد امتدت مساحتها ملء البصر.يفصل بينها،والمجال الثاني المجاور الذي يقطنه الأحياء،جدار محايد لايتجاوز أقصى ارتفاعه قامة شخص متوسِّط الطول،مما جعل تسلقّه أمرا معتادا خلال كل آن.

أيضا،تشكَّلت عند منتهى حَدِّ الجدار يسارا،حفرة بحجم معتبر جرَّاء تراكم عوامل التَّعرية،مما ضاعف أكثر فرص إمكانية النَّفاذ داخل المقبرة؛وأضحت بالتالي مسألة في غاية اليسر،قد لايجابه ضمنيا سلوكا من هذا القبيل غير العائق المعنوي الموصول بأعراف قدسية المقبرة لدى اعتقاد الساكنة ومن ثمَّة حظر الذَّهاب إليها سوى لضرورة الدفن،لايزيغ عن القاعدة  الراسخة إلاَّ هالك؛ويعتبر جانحا وصعلوكا.

طبعا،لم أتكلَّم عن الباب والمدخل الرئيسي المعلوم،الذي يقصده دافنو الموتى.باب خشبيٌّ تراثيٌّ مترهِّل،مغلق دائما؛لايفتح على مصراعيه سوى لحظة ذيوع خبر وفاة أحد مكوِّنات الساكنة،أو صبيحة الجمعة؛ابتداء من الفجر غاية الزَّوال،باعتباره يوما تنبعث خلال ساعاته صلة الأحياء بالأموات،نفس الأمر يسري على السابع والعشرين من كلِّ رمضان.

لم يكن هناك خوف من الموت لدى جيران المقبرة،فليموتوا متى أرادوا،دون هواجس مكان الدفن أو احتمال الابتعاد عن أنس مكان ارتبطت به تفاصيل حياتهم.المقبرة جاثمة في عين المكان؛بالكاد هي خطوات معدودة،تتجاوز مساحتها الحيِّز الآخر الذي تشغله مآوي الأحياء.

بغضِّ النَّظر عن الموت،نسج وجود المقبرة من جهة أخرى،يوميات خاصَّة ضمن خط التَّلاقي بين الأحياء والأموات،بحيث صارت تهيِّئ خدمات متعدِّدة غير مواراة الموتى،بلورها أساسا شباب المنطقة،الذي عثر معها على ملاذ رحب قصد الاختباء عن ترصُّد العيون،من أجل إنعاشه هامش الممنوع بلعبه الورق،مراهنات القمار،جلسات الخمر الهادئة،تنظيم مباريات في كرة القدم إبَّان أماسي رمضان،المتع الجنسية العابرة والمدَبَّرَة،الأحادية و المختلطة،بجانب استغلال حصيلة الغِلال التي يثمرها خلاء المقبرة موسميا،كنبات الخُبَّيْزة وقطفها ثم بيعها في الأسواق،مما أرسى مصدرا سانحا للرِّزق، وحبَّات النَّبق المتَاحة أيضا مجَّانا بفضل السدر الشوكي،لمن يرغب في التحلِّي بالصَّبر قليلا على جنيها،والإسراع بها أمام واجهات المدارس؛حيث يتزاحم الأطفال لشراء حفنات من الفاكهة الحلوة.

ترجمات جورج حبش: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة حماس
2025 - 04 - 18

تقديم:

توفيّ جورج حبش سنة.2008بادر سنة 1967 إلى تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،تنظيم ماركسي،علماني وقومي عربي،ذاع صيته سنوات السبعينات بسبب اختطاف الطائرات.

صُنِّف جورج حبش من طرف إسرائيل''زعيما إرهابيا''،بينما اعتبره أغلبية الفلسطينيين بطلا قوميا.

دعا نهاية حياته إلى تأسيس دولة ديمقراطية وعلمانية،يتعايش تحت كنفها العرب(مسلمون ومسيحيون،مثلما الشأن بالنسبة لديانة حبش) واليهود.   

هذا الحوار عبارة عن فقرات ضمن تفاصيل أخرى كثيرة تضمَّنها كتاب الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو تحت عنوان :''الثوار خالدون''،الصادر عن منشورات فايار خلال نفس سنة رحيل مؤلِّفه.شكَّلت مضامينه،شهادة تاريخية وسياسية لاغنى عنها،تسائل بالدرجة الأولى الإسلام السياسي غداة تفكك الاتحاد السوفياتي،وكذا تأبيد الأنظمة الحاكمة في العالم العربي على كراسي الحُكم،قبل سنتين من اندلاع شرارة ماعُرف ب''الربيع العربي''.

ترجمات جان جنيه : أربع ساعات في شاتيلا (2/2)
2025 - 04 - 11

يوميا طيلة شهر،في مدينة عجلون،راقبتُ خطى امرأة نحيفة لكنها قوية،تجلس القرفصاء تحت الأشجار والجو قارس،في وضعية رحيل مباغت تأهُّبا لحدوث خطر معين، أمام مركز حراسة عبارة عن منزل إسمنتيٍّ صغير بُنِي سريعا جدا،يشبه جلوسها طريقة هنود الأنديز،بعض الأفارقة السود،منبوذي طوكيو،وكذا الغجر داخل سوق.

تنتظر بقدمين حافيتين،مرتدية زيّا أسود،بضفائر في الجوانب وكذا الأكمام.وجهُها صارم لكن غير عابس،متعب دون ضجر.

هيَّأ قائد الكوماندوز غرفة فارغة تقريبا،لوَّحَ لها،دخلت الغرفة،أوصدت الباب بغير مفتاح.خرجت ثانية،دون أن تنبس بكلمة،أو ترسم ابتسامة،وعادت بقدميها العاريتين،بكيفية مستقيمة جدا غاية مدينة جرش،ثم معسكر البقعة.

أعرف بأنَّها خلعت فستانيها السوداويين،في الغرفة التي خُصِّصَت لها داخل مركز الحراسة،ثم وضعت وسط رزمة مختلف حمولتها المخبَّأة من الأغلفة والرسائل،جذبت باب الغرفة قليلا.سلَّمت الرسائل إلى المسؤول،غادرت دون النطق بأيِّ كلمة،وعادت ثانية خلال اليوم الموالي.

نساء أخريات،أكبر سنّا منها،تضحكن لانعدام أيِّ مأوى لهنَّ غير ثلاثة أحجار داكنة ينعتنها مبتسمات : ''بيتنا''في جبل الحسين(عمان).كم بدت طفولة لهجتهنَّ،حينما يكشفن لي الأحجار الثلاثة،وأحيانا الشعلة المضيئة ويصرخن ضاحكات :''دارنا''.هؤلاء النسوة المسنَّات غير المنتميات للثورة ولا المقاومة الفلسطينية :امتلكن بهجة غير متوقَّعة.

تواصل الشمس انثناءها فوق رؤوسهنَّ.يقترح امتداد ذراع أو إصبع شكلا من أشكال الظِلِّ نحيفا دائما.لكن كم حارقة هاته الشمس؟أردنية نتيجة تأثير رواية إدارية وسياسية حدَّدتها فرنسا،انجلترا،تركيا، أمريكا''بهجة غير متوقَّعة''،الأكثر سعادة لليأس الكبير الذي اكتنفها.

يستحضرن باستمرار فلسطين لم تكن موجودة حينما كنّا في سنِّ السادسة عشر،ثم امتلكن أخيرا تربة.لقد أضحين الآن،على وجه التحديد،ضمن فضاء مربِكٍ،ليس تحته أو فوقه،بحيث قد يشكِّل أبسط تصرُّف حركة خاطئة. بَدَت الأرض مزرعة،تحت أقدام حافية لهؤلاء الممثِّلات التراجيديات اللواتي بلغن عقدهن الثامن،والأنيقات إلى أبعد حدٍّ؟

لم يكن الوضع قبل هروبهنَّ من مدينة الخليل تحت التَّهديدات الإسرائيلية،فالأرض هنا جافة،يضفي كل واحد حِسِّيا خِفَّة وحركة عبر اللغة العربية.تمرُّ الأوقات،ويبدو بأنَّ هذه الأرض تختبر التالي :خلال فترة تضاءلت فيه أكثر إمكانية استساغة الفلسطينيين،فقد اكتشف هؤلاء الفلسطينيون،الحركية،التِّجوال،المسير،الرَّكض،ثم لعبة الأفكار التي يعاد توزيعها يوميا مثل أوراق لعب،وكذا الأسلحة الجاهزة،المفكَّكَة أو التي يعاد استعمالها.

تتناول كل واحدة من النسوة الكلمة تناوبا،يبتسمن.تقول عبارة إحداهن :

-أبطال !مجرَّد دعابة.لقد صفعتُ خمسة أو ستَّة منهم في الجبل و مسحتُ بهم الأرض.أعرف مايستحقون،وبوسعي القيام بالمزيد. 

وسط زرقة السماء الزرقاء تواصل الشمس انعطافها،لكنها ساخنة دائما.يتذكَّر هؤلاء الممثِّلات التراجيديات وفي نفس الوقت يتخيَّلن.قبل أن يصبحن أكثر إيضاحا،يشرن بإصبع السبَّابة حين نهاية حقبة ثم يبرزن الحروف الساكنة بنبرة صوتية.إذا مرَّ جندي أردنيّ من هنا،فسيكون مرتاحا :سيجد بين طيات إيقاع الجُمَل،إيقاع الرَّقصات البدويَّة.بينما إذا رأى جنديّ إسرائيلي هؤلاء الآلهة،دون اكتراث بالجمل،فسيطلق صوب الجمجمة مدفع رشَّاش.

هنا،وسط أنقاض شاتيلا،انعدم كل شيء.انزوت بسرعة بعض النساء المسنَّات، صامتات،خلف باب موصَدٍ بخِرقة بيضاء.جماعة فدائيين في غاية الفتوَّة،التقيت بعضهم في دمشق.

يتحقَّق الاختيار الذي يحدث نحو جماعة مميَّزة،خارج الانتماء الأصلي للولادة، بفضل انتماء بلا تبرير،ليس لأنَّ العدالة بجانب تلك الجماعة،بل تتجلَّى هذه العدالة وكذا مختلف أشكال الدفاع عن الجماعة بموجب إغراءٍ وجدانيٍّ،مرهف العواطف،بل حسِّيٍّ؛فأنا فرنسي،أقف إلى جانب الفلسطينيين،تماما ودون تعليل.يمتلكون الحقَّ بجانبهم مادمت أحبُّهم. لكن هل كنت لأحبُّهم لو لم يحوِّلهم الظلم إلى شعب مشرَّد؟

السيرة الذاتية
تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار